الرائدة في صحافة الموبايل

لا تبيعوا فلسطين مع التُّمور !

محمد بشكار

من حقِّنا أن نتوجَّس خِيفةً من خطرٍ مُحْدِقٍ، رغم أنَّ الشك إذا لم يُوصِل لليقين في بلدنا، فإمَّا يفْضي للسجن أو مستشفى المجانين، غير أنه في حالة صاحب كتاب “بيبيو .. الخراب على الباب” المناضل أحمد ويحمان رئيس المرصد المغربي لمناهضة التطبيع، فقد أوصله توجُّسه الصَّادق الذي أورَدَه في كتابه مُحَذِّراً من خطر يتربَّص بوحدتنا الوطنية، إلى اليقين والسِّجن معاً، وذلك إثْر انتفاضته في المعرض الأخير للتمور بأرفود على السماح لشركة صهيونية بعرض سِلعها بأحد الأروقة، اليوم يتَّضح لِلعرْيان، أنَّ ويحمان كان صادقاً في كل حرف خطَّه بحُرْقة في كتابه الموقوت، وأن الخراب فعلا على الباب، وأنَّ كل شك في هذه الأيَّام الغبْراء التي تلْتهِمنا بالخِذلان، صار مشروعاً ما دام نابعا من دوافع وجدانية تُحرِّكها الغيرة على الوطن، وما أقربه وطننا دون أن نَبْرح الأجواء بالطَّائرة من فلسطين!

تُعْجِبني التُّمور الفلسطينية، ولكن وهي تُباع كما بِيعتْ فلسطين في معرض التمور بأرفود تحت يافطة شركة إسرائيلية، لا أعرف هل أقمع ضميري أو أقْطع يدي قبل أن تمتد بالتَّذوق لتمْرة واحدة، والحقيقة أني لا أرتاح لطعام يأكُلني بَعده الندم، فقد ينتابني مغَصٌ شديد يُسمِّم نفسيتي لِعدَّة أشْهُر أُخر، ويبدو أنَّ آلة القمع الاسرائيلية تجاوزتْ بالجريمة حدود فلسطين، وها أنا بسببها أقمع شهوةً في نفسي تريد أنْ تمد لسانها لتذوق تمرةٍ قادمة من فلسطين، تمرةٍ واحدةٍ فقطْ سواءً أكلتها أو صُمْتُ عن ازْدِرادها لن يؤثر شبرا واحدا في سعي الفلسطينيين لاستعادة أراضيهم، ماذا لو ذهبتُ بعيدا في إسرافي واشتريتُ رطلين أو حتى خمسة أرطال من التمور المقْدِسية يكفيني لشهور، فأنا لا أقاوم طَعْمَها ما ألذَّه مع حريرة المساء، يكفي أني أعترف بيني وبين نفسي أنَّها من أرض فلسطين وليستْ إسرائيلية لترتاح مع ضميري معدتي، ولتطمئن هذه النفس الأمارة بالتمر، سأزيح عن الرُّطب لفافة اللومبالاج التي تحتوي علامة الشركة الاسرائيلية وألفُّها وأنا في عقر بيتي بالعَلَم الفلسطيني، فلا مَنْ شَافَ ولا منْ دَرَى، هكذا يؤسس لمقاومة جديدة اليوم كل العرب حقْناً للدماء، عجباً صاروا يخافون على أنفسهم من بطش إسرائيل وهم في البيوت تحت الوسادة ينتظرون معاهدة أخرى للسلام !

تعجبني التمور الفلسطينية، ولكن أعجبني أكثر الموقف الشجاع للمناضل المغربي أحمد ويحمان وهو يُجرِّدها أمام الملأ من علامتها الإسرائيلية، وهكذا صار بإمكاني أن أسْتلِذَّ بحلاوتها مع حريرة المساء رغم أن حريرة كل العرب بعد صفقة القرن أقذر حريرة، وهو الموقف السياسي الذي لم يترك التمرة الفلسطينية عارية بل إن ويحمان زفَّها عروساً وهو يُلبِسها العلَم المغربي، صحيح أن هذا الرجل والرجال قليل يدفع الآن حريته في السجن على امتداد شهر، ثمنا لثورته الفلسطينية في المغرب، ولكن يكفي أن التمرة قد اسْتعادت على يده جنسيتها ببلدنا، وهي قادمة من الأغوار وأريحا وقطاع غزة من مدينتي خان يونس ودير البلح، أعترف أني أحب كل أصناف التمور الفلسطينية وهي سواسية بين أسناني ولو لم أكن مُشْطاً، ولكن أُحِب أكثر بعد البرحي والحياني، تمر المجهول الفلسطيني فحلاوته لا يُخْطئها ذوق اللسان العالمي، غير أني أفضِّله أن يبقى مجهولا بالنسبة لي على أن أصبح معروفاً أني دفعت من جيبي لشركة إسرائيلية، ثمن سلاح في يد إرهابي يبيد شعباً من العزل الأبرياء!

تُعْجبني التمور الفلسطينية، وأعجب قبل أن أقذف واحدة في فمي، كيف لنخلة امتدت في عراقة السنين قرونا بأرض الأنبياء، تنتقل بظلم الاحتلال دون أن تُغادر جِذرَها إلى مِلْكيَّة إسرائيل، أعجب لجَنْيِها من الرُّطَب كيف أصْبح يُباع في الأسواق العالمية لتذهب أرباحه إلى جيوب إسرائيل، فمن حقِّ ليس فقط ويحمان أن ينتفض بل كل المغاربة، لأنَّ هذه السيولة من الأموال ستسيل بسببها دماء الأبرياء الفلسطينيين المُحاصرين في بلدهم، ولأن هذه الأموال المُكْتسبة دون وجه حق منذورة لمشاريع استيطانية تغتصب أرض الغير، صحيح أن كل هذا التضبيع الذي يُمارسه علينا الكيان الصهيوني لن يزعزع قناعاتي التَّذوُّقية تُجاه التمور الفلسطينية، ولكن من أين لي أن أستمتع بطعْمها وقد صار الحلو مُرّاً بعد أن امتزج بدم الشُّهداء؟

تُعْجبني التمور الفلسطينية، ولستُ ضد أن يستمتع بطعْمِها اللذيذ وهي مطروحة في السوق العالمية، المسلم واليهودي والمسيحي وحتى البوذي، فقدْ تتَّفق كل الألسنة على جوْدتها ولو اختلفتْ في خطاباتها السياسية بين من يجُرُّ الحبل ليلُفَّ أخطبوطه الصهيوني حول أعْناقنا ومن يقْطعه أو يرخيه لنقْضي شنقاً، ومع ذلك تبقى التَّمرة الفلسطينية من حقِّ الجميع ولكن يجب أن تردَّ إسرائيل الأرض التي أنتجتها حتى نضجتْ مُرتويةً بِعرَق المزارع الفلسطيني، وهل هناك أجمل وألذ من أن تتمتَّع هذه التُّمور بكامل السيادة على أراضيها الفلسطينية، لتصبح حلاوتها لساناً للتعايش الديني، ومنْ يتَّخذِ النخلة في قُدسها دليلا لن يُضَيِّعَ القِبْلة؟

(افتتاحية ملحق”العلم الثقافي” ليومه الخميس 14 نونبر 2019)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد