الرائدة في صحافة الموبايل

الكِمَامة أطاحتْ بالقناع..

محمد بشكار

لا يمُرُّ عنوانٌ في تلفازٍ أو صحيفة إلكترونية وورقية أصابه ما أصاب البشر من فيروس كورونا، دون عبارة (الحَجْر الصحي)، وما أشبه تكرارها بضربات الفأس على الرأس، خصوصا إذا كان يحفر قبرا مؤجلا على مقاس ميت مازال يحتضر في الفراش، بل إن عبارة (الحَجْر الصحي) التي قد تفيد أحيانا الإكراه البدني، تجعلنا نعيد النظر في أنفسنا كبشر، وشتَّان بين امرئ سليم وآخر أصبح في نظر الجميع فيروسا كورونيا مُحدقاً بالخطر، وقد يستدعي تعامُلا أشبه بما تلقاه الكلاب المسعورة لا يخلو من عنف نفسي وجسدي، والغريب أن الآلة الإعلامية الشرسة في تتبُّعِها الكرونولوجي للحالات المرضية المُسجَّلة بكل بقاع العالم، أصبحت أكثر نشاطا وانتشارا من الوباء، وهذا في حد ذاته يعتبر حجْراً تعذيبيا يشل حركة المجتمع، فالتفكير في المرض أشد فتكا من المرض، وثمة فرق بين السبق والشنق الإعلامي للأرواح التي تُعجِّلُ الأخبار السيئة بأجلها تحقيقا لبث مُباشر يُدِرُّ الأرباح !

ولكن ما الذي استجدَّ مع الحَجْر الجديد الذي نخضع اليوم لحكمته حتى لا أقول سلطته خوفاً من الإصابة بعدوى المرض، بالمقارنة مع الحَجْر المألوف الذي تعيش البشرية عزلته الاجتماعية بمحْض إرادتها، فالفرد أوْغَلَ في فردانيته البرغماتية ولم يعد يلتقي أحدا إلا لأجل مصلحة تُمْليهَا إما ظروف العمل أو مؤامرة سياسية، وقد يخرج الفرد من حَجْره أو جُحْره في أفضل الحسنات لأجل قصعة كسكس في حفل عزاء، علما أنَّ آخر لقاء مع المرحوم كان عبر الواتساب منذ أشهر، وهاهم يذرفون الدموع مُتذكِّرين عبارة كتبها في سطرٍ قبل أن ينتقل للقبر !

ولن نتيه عن السبب الذي جَرَّ على البشرية أشدَّ العطب كما لو يزُجُّها في مَعْزَلٍ غير صحي، لن نتيه عن السَّبب الذي أوْسَع المسافة بيننا وبين الآخر ونحن نحمله بيدنا هاتفا ذكيا يعدم الوجود في كل لحظة، صار بحيِّزه الضَّيِّق الذي يتيح تواصلا شاسعاً في الكذب، يفصلنا عن حرارة اللقاء التي لا تستطيع أخطر الأمراض أنْ تقاوم درجتها الإنسانية العالية، فقدْنا بسبب شاشة إلكترونية الحب الذي من لحمٍ ودمٍ وصار كل حبٍّ مجرد بثٍّ مُباشر عبر الواتساب أو فيسبوك، اليوم نحتاج لوجوهنا لأجل تبادل القبلات ولا نجدها إلا متواريَّة خلف الكِمَامات، نحتاج أن نمُدَّ أيادينا بِصفْحٍ جميل، لكنَّ الخوف من العدوى التي تنتقل باللمس قَطَّعَها مع الأرجل من خِلاف!

داء كورونا أشبه بحرب عالمية ثالثة لا تخلو من غارات مسبوقة بصفَّارات الإنذار، فَرضَ العديد من التدابير الاحترازِية، فأغلق بين البلدان الأجواء البرية والجوية والبحرية كما أغلق المدارس، وخلخل التوازن الاقتصادي في العالم فانخفض ثمن النفط لتعم الحرائق بفائدتها الجميع، وانهارت الأسهم في بورصة نيويورك دون أن ينهار جشع تكديس الثروات، وما زالت نقطة الخطر الحمراء تتسع على خريطة العالم، لذلك حظروا التكتلات بكل أشكالها الاجتماعية وقد يُحظر التجول في الشوارع، وعزلوا المزيد من المصابين في محاجر صحية خوفا من تفشي الوباء، أما الأسر فقد حشدت المؤونة في مخازنها تحسُّباً لأيام عصيبة يعمُّها الجوع، ومع ذلك أكرر إنَّ الفرق بين العزلة الاختيارية لأجل المصلحة الذاتية والعزلة الإجبارية لدواعي مرضية، كالفرق بين وجهٍ كان بِقناعٍ وصار بكِمَامة!

لا أظنُّ أحداً اليوم ولو قذفوه بالمنجنيق في حَجْر صحي سيشعر بفرق كبير بين الحائط المضروب عليه خوفا من العدوى، والعزلة التي كان يضربها على نفسه خوفا من الفقدان، وما ذلك إلا لأن الأفراد تمكَّنوا من تدْبير علاقاتهم الاجتماعية من بعيد، وأفظع من فيروس كورونا بكل إكراهاته الصحية، أنْ يفقد الإنسان الشعور بذاته وغيره وهو في غيبوبة فصاميَّة تجعله ينظر للواقع من ثقب الباب، وما كان هذا الصِّنْف البشري الذي يُعتبر نِتاج حضارة رأسمالية مغشوشة، لِيُصدِّق أنه طيلة موته عاش جثة هامدة ولو أدْلى أحدهم بالحُجَّة أكفاناً بيضاء!

(افتتاحية ملحق “العلم الثقافي” ليومه الخميس 12 مارس 2020)

.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد