الرائدة في صحافة الموبايل

تقاطب المذاهب ببلاد المغرب وغلبة المذهب المالكي، وانتشار التصوف إلى العهد المريني وتحوله إلى بلاد الأولياء والصالحين

الدكتور محمد حماس، باحث في التراث

•نعتقد أن دراسة تاريخ بلاد شمال إفريقيا في ظل نشر الدين الإسلامي، يجب أن يكون موضوعيا بعيدا أن أي عصبية دينية بالخصوص، أو فكر عروبي يسعى لطمس ما تاريخا ممتدا ضاربا في القدم … فالتاريخ ليس أرقاما وأسماء لأشخاص مروا في الزمان والمكان، بقدر ما هو حياة اجتماعية وثقافة لشعوب كابت الكثير لتصنع حضارة قائمة. ونعتقد أن العلوم الحديثة كفيلة باستقراء تاريخ هذه الشعوب وفق ما يقتضيه العلم والحقيقة، وهو تاريخ تبدوا الشعوب في أمس الحاجة إليه في زمنها الراهن لتستشرف المستقبل، لأنه بدون ماضيها الحضاري لا يمكن الحديث عن تطور ومسايرة للركب الحضاري.
1)الرؤيا من مدركات الغيب
يؤكد ابن خلدون في المقدمة أن هذا العلم، أي الرؤيا، عرفه السلف والخلف، وربما وجد عند أمم غابرة، وهو ما ثبت في القرآن الكريم في سورة يوسف، وكذا النبي صلى الله عليه وسلم، والخليفة أبو بكر الصديق. فالرؤيا من مدركات الغيب، على حد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ‏”‏الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة‏.‏ وقال‏:‏ ‏”‏لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح أو ترى له”‏‏ (1).‏
“أما السبب في كون الرؤيا مدركا للغيب فهو أن الروح القلبي و هو البخار اللطيف المنبعث من تجويف القلب اللحمي ينتشر في الشريانات و مع الدم في سائر البدن و به تكمل أفعال القوى الحيوانية و إحساسها‏.‏ فإذا أدركه الملال بكثرة التصرف في الإحساس بالحواس الخمس و تصريف القوى الظاهرة و غشي سطح البدن ما يغشاه من برد الليل انخنس الروح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبي فيستجم بذلك لمعاودة فعله فتعطلت الحواس الظاهرة كلها و ذلك هو معنى النوم”(2). فالروح القلبي هو المطية للروح العاقل، وهو عين الإدراك. فقط يمنعه الانشغال بالبدن وقواه وحواسه. والمدارك الجسمانية هي الدماغية. أما المتصرف منها فهو الخيال. والحديث هنا عن الرؤيا الصادقة وليس عن أضغاث أحلام. فالرؤيا الصادقة تحمل بشارة من الله سبحانه وتعالى عما سيحدث. فالمدرك للرؤيا يظن أنه في حال يقظة لثقل ما ألقي إليه. أما التعبير في الرؤيا فهو تلك الصورة المناسبة للمعنى والتي يلقيها الروح العقلي إلى الخيال. وهي صور تتناسب مع الحس ومعتادة لديه (يصور له السلطان بالبحر والعدو بالحية، والنساء بالأواني). ومن أشهر علماء المنطقة الذين كان لهم الأثر الكبير في تقريب هذا العلم للأفراد، نذكر محمد بن سيرين، والكرماني، وابن أبي طالب القيرواني صاحب كتاب “الممتع”، ثم السالمي صاحب كتاب “الإشارة”، وابن راشد صاحب كتاب “المرقبة العليا” (3)، بالإضافة لابن خلدون صاحب المقدمة والعبر.

2)التصوف ونهج السلف
التصوف عبادة روحية، ظل عند بداياته، خصوصا بالمغرب الأقصى بداية من ق11م على يد الحجاج إلى الديار المقدسة، متأثرا بالمشارقة. وقد انتشر على يد أبي يعزى يلنور، وابن عربي، وعلي بن حرزهم. وقد كان التصوف في هذه الفترة تربية روحية، وتربية على الجهاد وبذل النفس في سبيل الإسلام. ليتحول فيما بعد إلى إطاره السياسي مع المرابطين والموحدين. أما بلاد الأندلس فقد عرفت التصوف في ق7هـ مع ابن عربي (560/638هـ) الذي يقول بوجود الإنسان الكامل الذي تتجلى فيه الصفات الإلهية. ثم كبير الأولياء الصوفيين بالأندلس، أبي مهدي عيسى بن الزيات.
أما ابن خلدون فيختصر الحديث عن التصوف في بدايته الأولى خلال ق2هـ، كون الناس أقبلوا على مخالطة الدنيا وملذاتها، فجاء التصوف علما من العلوم الشرعية المضافة للأمة الإسلامية. والتصوف بهذا المعنى طريقة يختص بها أصحابها سيرا على نهج السلف وكباره من الصحابة والتابعين على طريق الحق والهداية. “وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة. وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف”(4).
ــ أسباب انتشار التصوف بالمغرب
1.إن التصوف لم يأت شيوعه عفويا، ولكن حدث عن وعي وقصد لحاجات المجتمع الإسلامي. فتدهور الخلافة وتولي رجال، هم أدنى من مطالب العصر ومسؤولياته، بعد تزايد الخطر الصليبي، جعل العباد والمتصوفة يكونون تنظيمات محكمة، فكرية وجهادية.
2.ما عرفه المجتمع الأندلسي من انحلال خلقي دفع ببعض الناس إلى الزهد والتصوف بعيدا عما يجري في المجتمع من مظالم ومفاسد. (5)
3.ما عرفته بلاد الغرب الإسلامي من سطوة الفقهاء، وسيطرتهم المطلقة على الميدان الديني والدنيوي وتزمتهم البالغ، جعلت ظهور المتصوفة ونضج قضاياهم الذوقية الروحية أشبه بالتمرد السياسي والديني، وقد اختزل Lagardière أسبابها في معارضة بعض الشرائح الاجتماعية للفقهاء المالكيين. (6)
4.نضج الفكر الفلسفي ودوره في طبع التصوف بطابع إشراقي يعتمد على المصطلح الفلسفي المتميز: مدرسة ابن مسرة وأقطابها، كابن السيد البطليوسي، ومالك بن وهيب، وابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد.
5.انتشار المؤلفات الصوفية على اختلاف أصولها، حيث لعبت دورا تربويا وتكوينيا وحركيا فاعلا بالأندلس (الميرية)، والغرب الإسلامي قاطبة، ومنها نذكر:
رسالة القشيري: أبو القاسم هوزان (توفي 386هـ)، وهو كتاب في التصوف السني المعتدل على طريقة الأشعري.
كتاب “قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد” لأبي طالب محمد بن علي بن عطية الحارثي المكي (توفي 366هـ)
كتاب “التجبير في التذكير” للمحاسبي (توفي 243هـ)
كتب الغزالي (توفي 505هـ) وعلى رأسها كتاب “إحياء علوم الدين” الذي كان موضع خلاف وفتاوى خاصة الجزء الرابع منه.
لا غرابة إذن إذا حظي ولايزال، الصلحاء وأصحاب الأضرحة والمناقب والكرامات، بالمكانة الرفيعة بين الناس. وقد استطاع رجال التصوف أن يجعلوا لأنفسهم مكانة مقدسة في قلوب العامة، تحوف بها كرامات وتجليات ورؤيا داخل فضاءات استلزمت الاقتداء بهم والسير على نهجهم. وبالتالي تحولت الزوايا والأضرحة وبيوتات هؤلاء إلى فضاءات روحية للتعبد والتقرب إلى الله. ففي المغرب ظهر عدد من الزوايا التي هيمنت على مجالات الحياة بما فيها السياسية. هكذا برزت زوايا أصبحت مراكز للتصوف وتلاوة الأحزاب وقراءة الأوراد والذكر. وكان أنشط هذه الزوايا:
•زاوية حي المخفية بفاس، وزاوية حي العيون بتطاوين، اللتان أسسهما معا الشيخ أبو المحاسن يوسف الفاسي المتوفي سنة 1013 هـ.
•زاوية حي القلقليين بفاس، التي أسسها عبد الرحمن بن محمد الفاسي المدعو بالعارف المتوفى سنة 1045 هـ
•زاوية تامكروت بدرعة جنوب المغرب، التي أسسها عمر بن أحمد الأنصاري عام 983 هـ
•الزاوية الدلائية، التي أسسها في أواخر القرن العاشر أبو بكر بن محمد الدلائي.
و من جهة أخرى فإن أهل الغرب الإسلامي قدروا الصلحاء، فتجدهم يسمون أبناءهم بأسمائهم ومدنهم أيضا تحمل أسماء هؤلاء الأولياء. “المشهور عند أهل المغرب ربط تأسيس الحواضر بالأولياء والصالحين، لهذا نجد الربط الثنائي بين الولي والمدينة، فنقول مثلا، تبسة أو مدينة سيدي بن سعيد، البليدة أو مدينة سيدي أحمد الكبير، أو مدينة الورود، الجزائر، مدينة سيدي عبد الرحمن الثعالبي، ثم مليانة مدينة سيدي أحمد بن يوسف، وهران مدينة سيدي الهواري، تلمسان مدينة العباد أو مدينة سيدي بومدين شعيب، مدينة بلعباس أو سيدي بلعباس البوزيدي، تونس مدينة سيدي محرز”(7).
ثم لا يجوز إغفال دور المتصوفة من خلال خطاباتهم وكتاباتهم، خاصة الأشعار التي أغنت اللغة العربية بفضل الإكثار من الإشارة والرمز والشطح. ونسوق هنا النماذج التالية:
ــ في رحاب أهل التصوف:
نضرب مثلا هنا لأحد المتصوفة وهو: أبو مدين الأندلسي
“جاء في حاشية كتاب (الديباج المذهّب) للشيخ أحمد بن أحمد المعروف ببابا التنبكتي. صـفحة: 127 في ترجمة الشيخ أبو مدين شعيب بن الحسن الأندلسي: كان له مجلس وعظٍ يتكلّم فيه على الناس وتمر به الطيور وهو يتكلّم فتقف تسمع وربّما مات بعضها، وكثيراً ما يموت بمجلسه أهل الحبّ.
ثم روى عن أبي مدين أنه قال: “… وبقيت مدّة وأخبار أبي يعزى تَرِدُ عليَّ وكراماته يتداولها الناس، فملأ قلبي حبّه فقصدته مع الفقراء، فلما وصلنا إليه أقبل عليهم دوني، وإذا حضر الطعام منعني من الأكل معهم، فبقيت ثلاثة أيام فأجهدني الجوع وتحيّرت من خواطر ترِدُ عليَّ وقلت في نفسي: إذا قام الشيخ من موضعه مرّغتُ فيه وجهي، فلمّا قام مرّغْتُهُ فإذا أنا لا أبصر شيئاً، فبكيت ليلتي، فلمّا أصبح دعاني وقرَّبني فقلت: يا سيدي قد عميت، فمسح بيده على عيني فبصرت، ثم على صدري فزالت عني تلك الخواطر، وفقدت ألم الجوع، وشاهدت في الوقت عجائب بركاته، ثم استأذنته في الانصراف للحج فأذن لي وقال: ستلقى في طريقك الأسد فلا يَرُعْكَ، فإن غلب عليك خوفه فقل له: بحرمة آل النور إلا انصرفتَ عني، فكان الأمر كما قال.”
“وعن بعض الأولياء قال: رأيت في النوم قائلاً يقول: قل لأبي مدين بثّ العلم ولا تبالِ ترتَعْ غداً مع العوالي، فإنّك في مقام آدم أبي الذراري. فقصصتها عليه، فقال لي: عزمتُ على الخروج للجبال والفيافي وأبعُدَ عن العمران، ورؤياك هذه تأمرني بالجلوس وترك العزم …. .”
“وعن العارف عبد الرحيم المغربي قال: سمعت أبا مدين يقول: أوقفني ربي عزّ وجل بين يديه، وقال لي: يا شعيب ماذا عن يمينك؟ فقلت: يا رب عطاؤك. قال: وماذا عن شمالك؟ قلت: يا رب قضاؤك. قال: يا شُعيب قد ضاعفت لك هذا وغفرت لك هذا، فطوبى لمن رآك أو رأى من رآك.”
“وعن أبي العباس المرسي قال: جُلْتُ في الملكوت فرأيت سيدي أبا مدين متعلّقاً بساق العرش وهو يومئذٍ رجل أشقر أزرق، فقلت له: وما علومك وما مقامك؟ فقال: علومي أحدٌ وسبعون علماً، ومقامي رابع الخلفاء، ورأس السبعة الأبدال، وسُئل عما خصه الله به فقال: مقامي العبودية، وعلومي الألوهية، وصفاتي مستمدة من الصفات الربّانيّة؛ ملأت عظمته سري وجهري وأضاء بنوره بري وبحري …”
ـــ في مقام الحب
حسان بن ثابت يقول:
وأنـت إلــه الخلـق ربي وخالقي *** بذلك ما عُمرتُ في الناس أشهدُ
تعاليت رب الناس عن قول من دعا *** سواك إلها أنـت أعلى وأمـجد
لك الخلـق والنعماء والأمـر كلـه *** فإيـاك نستعيـن وإيـاك نعبـد
وللقاضي شعر دوَّنته الكتب التي ترجمت له، ويدور حول النسيب والتشوق إلى زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم). والمعروف أن حياته العلمية وانشغاله بالقضاء صرفاه عن أداء فريضة الحج، ومن شعره الذي يعبر عن شوقه ولوعته الوجدانية ولهفته إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم:
بشراك بشراك فقد لاحت قبابهم
فانزل فقد نلت ما تهوى وتختار
هذا المحصب، هذا الخيف خيف منى
هذي منازلهم هذي هي الدار
هذا الذي وخذت شوقًا له الإبل
هذا الحبيب الذي ما منه لي بدل
هذا الذي ما رأتْ عين ولا سمعت
أذْنٌ بأكرمَ من كَفِّهِ إن سألوا
ــ و من كتاب “الفتوحات المكية” للشيخ محيي الدين بن عربي/ 560هـ
واسلك بنا النهجَ القويمَ ملبياً
صوتَ المنادي عند كلِّ نداء
هو حاجب البابِ الذي خضعتْ له
غلبُ الرقابِ وآمرُ الأمراء
لقد عرف الغرب الإسلامي، خلال فترة الانتقال من المرابطين إلى الموحدين تزامن ثلاثة أشكال للسلطة السياسية العليا في البلاد. و قد صارع كل شكل منها الآخر.
ارتكز المرابطون على نظرية سياسية سنية، فاعترفوا بخلافة بني العباس في المشرق ومارسوا نظام البيعة واستشارة أهل الحل والعقد موظفين المذهب المالكي وعاملين على التمكين له في السودان والمغرب والأندلس ضدا على العبادات الوثنية في الســــــودان والمغرب وبقايا النفوذ الخارجي البرغواطي وبقايا التأثير الشعبي.
3) الظهور المبكر للفضاءات التعليمية
لقد انتبه المسلمون إلى أهمية التعليم والتربية الإسلامية باعتبار أنها السبيل الأمثل لترسيخ العقيدة بين الناشئة، وبالخصوص تحفيظ القرآن الكريم. فاللغة العربية لغة الوحي، وبالتالي لابد من جعلها لسان الأجيال القادمة. والجدير بالذكر أن “أول إشارة إلى الكتاتيب في إفريقية، ترجع إلى نهاية القرن الأول الهجري، ذكرها الدباغ في معالم الإيمان في ترجمته لسفيان بن وهب الخولاني، كما تمثلت في المساجد الجامعة، وأهما جامع القيروان، الذي كان إلى ذلك الحين معسكرًا ومعبدًا، وجامع تلمسان الذي بناه موسى بن نصير يقوم في المغرب الأوسط، بنفس الدور الذي اضطلع به مسجد القيروان في إفريقية التونسية. وكان من آثار الحركة الثقافية، التي رعاها رجال الدعوة والفتح أن غدت القيروان مرجلا يغلي بالدراسات، والنقاش المذهبي، فتنوعت مساجلات مساجد القيروان ما بين واصلية (معتزلة) وخارجية، وسنية وشيعية، وتعايشت فيها مذاهب العراقيين، والشافعية، والمالكية، والأوزاعية والظاهرية، حتى كتب الظفر نهائيا، وعلى يد أسد بن الفرات فاتح صقلية ثم على يد سحنون بن حبيب التنوخي(240هـ) للمذهب المالكي وللتيارات المدنية (نسبة لمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم)، ومحيت المذاهب الأخرى خاصة منها مذهب أبي حنيفة النعمان”(8).

تميز دور المؤسسات التعليمية الإسلامية بالمزج بين المعرفة والتشبع بتعاليم الدين. أو بمعنى آخر جمع بين التعليم وإذكاء الجانب الروحي عند المسلم لتكتمل لديه ملكة العلم والعقيدة. وبالنظر إلى دور المدرسة الإسلامية في الغرب الإسلامي يمكن تصنيفها “إلى أربعة أنواع:
مؤسسات تعبدية استخدمت للتعليم، وتتمثل في المساجد، وهي أقدم أماكن التعلم بالغرب الإسلامي.
مؤسسات أوقفت على التعليم وحده متصلة بالمسجد حينًا، ومنفصلة عنه حينًا آخر(وهي الكتاتيب)
مؤسسات تعبدية جهادية، مثل الأربطة أو الرباطات، ولكنها استخدمت للتعليم.
التعلم في المنازل، وهو إما خاص أو عام. فالأول في منازل المؤدبين والثاني في منازل العلماء”(9).
خاتمة
لا يمكن للدولة الإسلامية الفصل بين المجال المادي والمجال الروحي، من حيث تميز المدينة الإسلامي بمعمارها وصوامع مساجدها وقببها وأسواقها وزقاقات أحيائها من جهة، ومدارس تحفيظ القرآن وانتشار المذاهب الفقهية والصوفية والكلامية والعلوم الإسلامية، وتشبث ساكنة المنطقة بقيم هذا الدين الذي سما نجمه خلال العهد المرابطي والموحدي والمريني وغيرهم من الدول الإسلامية التي تعاقبت على المنطقة. فظل التشبع بالعقيدة الإسلامية المحفز للفتح والتطلع إلى نشر الإسلام في كل بقعة من هذه الأرض، وهذا يدل على مدى استيعاب الأمة الإسلامية لكونية وعالمية الإسلام وعظمة الرسالة التي جاء بها وأنه لابد وأن يستمر ويصمد.
تبلور استمرار العقيدة الإسلامية عبر السنين من خلال العديد من الممارسات اليومية، والتي أضحت طبيعية وضرورية في حياة الفرد كما الجماعة. وهي سلوكات تترجم القيم التي غرسها الإسلام في جسد هذه الأمة والتي لا يمكن أن يحس بها غير مسلم.
هذا لا يعني أن العقيدة الجديدة وجدت فراغا على مستوى القيم بين ساكنة الشمال الإفريقي، أي الأمازيغ، والأمثلة من حياتهم اليومية كثيرة. لنأخذ على سبيل المثال عملية “التويزة” التي تؤكد على التكافل وضرب الفوارق الطبقية، بحيث يتجند الجميع لحرث الأراضي الفلاحية لجميع الأهالي دون ميز وتتبع عملية النمو إلى أن بتم جني المحصول، “أنبدو”، وتوزيعه بالتساوي، ويرافق هذه العملية طقوس احتفالية، وما يسبقها من طقوس الاستمطار … ثم “أمغار” الذي يدير شأن القبيلة وسط مجلس يمثل الدواوير وشرائح المجتمع الأمازيغي … والأمر لا ينحصر في المجال الفلاحي بل يتعداه للتآزر في الأفراح والأحزان والنصرة في الحروب … لكن هل استمرت هذه القيم كسابق عهدها؟ فلا ننسى أن الأمازيغ كان لهم فضل نشر التعاليم الإسلامية ببلادهم بعيدا تسلط الفقهاء ورجال الدين، أو تسخير العقيدة لهيمنة وتبرير النزوات الذاتية والإذلال.

الهوامش
1) عبد الرحمن ابن خلدون: المقدمة. الفصل الثاني عشر. في علم تعبير الرؤيا. الطبعة الرابعة 1981. دار القلم. بيروت/لبنان. ص 475/478.
2)نفسه
3)نفسه
4)نفسه. ص 467/468
5)عزا ألفريد بل ظهور المتصوفة إلى العقلية المغربية المجبولة على الاعتقاد بثنائية قوى الخير و الشر و إن كان قد أرجع في موضع آخر السبب إلى تذمر الرعية من سلوك الفقهاء و حياة البذخ و الترف التي عاشوها و إهمال المسلمين لشؤون الدين).
Le souffisme en occident Musulman au 12ime et 13ime siècle de J.C. Annales de la faculté des lettres d’Alger, Paris, 1935, P. 147
6)La Tariqua et la révolte des Muridun en 539H/1144 en Alandalus. Revue d’occident Musulman et de la méditerranée ; N° 35, 1983. 2ime semestre pp. 157. 161
7)محمد الأمين بلغيث: فصـــــــول في التاريخ والعمران بالغرب الإسلامي. الطبعة الأولى. ردمك. أنتر سينيي. الجزائر 1428هـ/2007م. ص 19 و 20)
8)محمد الأمين بلغيث: فصـــــــول في التاريخ والعمران بالغرب الإسلامي. الطبعة الأولى. ردمك. أنتر سينيي. الجزائر 1428هـ/2007م. ص 59
9)محمد الأمين بلغيث: فصـــــــول في التاريخ والعمران بالغرب الإسلامي. الطبعة الأولى. ردمك. أنتر سينيي. الجزائر 1428هـ/2007م. ص 20 و 21

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد