الرائدة في صحافة الموبايل

صلاة الجمعة في البيوت

  

عبد الله الجباري   

اطلعت على فتاوى منشورة في مواقع إلكترونية، أو نصوص متداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تدعو إلى منع الناس من صلاة الجمعة في بيوتهم، وتحظر عليهم ذلك، وتحضهم على الاكتفاء بصلاة الظهر، وأنه لا بديل عنها.

واستدلوا لذلك بأدلة لي عليها ملاحظات، سأوردها في هذا البيان.

أولا: أفتى الدكتور السيد خالد حنفي من قيادة المجلس الأوربي للإفتاء فتوى ضمّنها أربعة أدلة، كلها تؤدي إلى المنع والحظر، وهي:

أ – استدل بأن صلاة الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة، ولم يثبت عن الشارع صلى الله عليه وسلم أنه صلاها في البيوت لعدم توفر شرائطها، كفقد العدد، والإظهار، ليخلص إلى أن عدم إقامتها مع عدم توفرها هو الهدي النبوي.

والصواب أن صلاة الجمعة فرضت بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم، بعد الهجرة، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم. قال الحافظ ابن حجر: “فالأكثر على أنها فرضت بالمدينة، وهو مقتضى ما تقدم أن فرضيتها بالآية المذكورة، وهي مدنية، وقال الشيخ أبو حامد (الاسفراييني): فرضت بمكة، وهو غريب”. وقال النووي في المجموع تعليقا على قول الاسفراييني: فيه نظر.

وقد يكون مستند أبي حامد حديث ابن عباس: “أُذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالجمعة قبل أن يهاجر، ولم يستطع أن يجمع بمكة، فكتب إلى مصعب بن عمير: أما بعد، فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة، فتقربوا إلى الله بركعتين”.

وفي هذا النص أمور، منها أنه دعاه إلى التقرب إلى الله بركعتين دون الخطبة، وصلاة الجمعة ركعتان مع الخطبة، هذا اسمها ومفهومها الشرعي.

وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أُذن له بإقامتها على سبيل الندب وهو بمكة، وصلاها تطوعا بعد الهجرة إلى أن نزلت آية الجمعة بفرضيتها.

وفي مصنف عبد الرزاق أن مصعب بن عمير استأذن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يُجَمع بأهل المدينة فأذن له، وهذا دليل على أن الجمعة لم تكن واجبة آنذاك، ولو كانت واجبة لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بها ابتداء، دون أن يستأذنه.

قال العلامة عبد الله بن الصديق لتوجيه كلام الإمام الإسفراييني: “الجمعة شُرعت بمكة على سبيل الاستحباب، ثم فرضت بالمدينة، ولعل أبا حامد أراد أنها شرعت بمكة، وعبّر بقول: فُرضت، سهوا منه رحمه الله”.

وإذا تقرر عند جمهور العلماء أنها فرضت بعد الهجرة، بطل ما بني على هذا من كونه صلى الله عليه وسلم لم يصلها في البيوت بمكة، لفقد شروطها.

ب – استند بعض المجيزين على آراء الحنفية لأنهم ممن لا يتوسعون في العدد الذي تنعقد به الجمعة، وفاتهم أن الحنفية يشترطون شروطا أخَر، منها المكان البارز المعلوم. وتساءل الدكتور المحترم بقوله: “فهل يتحقق هذا الشرط بالصلاة في البيوت؟”.

وما يثبت عند التحقيق، أن هذين الشرطين وغيرهما من شروط الجمعة مما لا يستند إلى أدلة معتبرة، ويكفي أن أورد قولين لإمامين:

الأول: اختلف متأخرو المالكية حول شرط المسجد، هل يكون مسقفا أم لا؟ وهل من شرطه أن تكون الجمعة راتبة فيه أم لا؟ وعلق ابن رشد على هذه الأقوال بعبارته الواضحة الصريحة الفصيحة: “وهذا كله لعله تعمق في هذا الباب، ودين الله يسر، ولقائل أن يقول: إن هذه لو كانت شروطا في صحة الصلاة، لما جاز أن يسكت عنها عليه الصلاة والسلام، ولا أن يترك بيانها لقوله تعالى: “لتبين للناس ما نزل إليهم”، ولقوله تعالى: “ولتبين لهم الذي اختلفوا فيه”. يا له من فقيه عظيم !!

الثاني: قال الإمام عبد الله بن الصديق الغماري: “يجب أن تعلم أن الأئمة الأربعة مجتمعين ومنفردين شرطوا في الجمعة شروطا لم يقم عليها دليل، كاشتراطهم عددا معينا، وكونها في بنيان، وعدم تعددها، وعدم إعادتها لمن فاتته”، وقال أيضا: “إن الأئمة اشترطوا في الجمعة شروطا لم يقم عليها دليل، منها العدد، وهل يكفي أربعون أو ثلاثون أو اثنا عشر أو أربعة؟ ومنها أن تكون في بناء، وأن لا تتعدد، فإن تعددت فأيها يصح؟، قال المالكية: تصح جمعة المسجد القديم وإن تأخرت، وقال الشافعية: تصح الجمعة السابقة بتكبيرة الإحرام، وبنوا على ذلك قولهم: الجمعة لمن سبق، وظنه الناس حديثا وليس بحديث…. ومنها عند الحنفية أن تكون في بلد كبير فيه حاكم وقاضي ….، ومنها عندهم أن يأذن في إقامتها الخليفة، …. والمقصود أن الأئمة أحاطوا الجمعة بشروط لم يقم على أكثرها دليل، اجتهادا منهم لا يلامون عليه، بل هم مثابون، بل اللوم على من عرف الدليل ثم استمر في التقليد“. وهذا من فقاهته رحمه الله تعالى.

ونرجع إلى الشرطين المذكورين في الفتوى، ونسأل: ما دليلهما؟ فإذا ثبت لهما الدليل ثبتت لهما الشرطية، وإذا لم يثبت لهما الدليل انتفت عنهما صفة الشرطية.

وهنا أذَكر الذين يوردون جملةً من الشروط لعبادات متعددة، ما معنى الشرط؟ وما حده؟

قال إمام الأصول حجة الإسلام الغزالي: “يُعرف فساد العقد والعبادةِ بفوات شرطه، وركنه، ويعرف فوات الشرط إما بالإجماع، كالطهارة في الصلاة، وستر العورة، واستقبال القبلة، وإما بنص، وإما بصيغة النفي، كقوله: “لا صلاة إلا بطهور، ولا نكاح إلا بشهود””.

وقال العلامة الأصولي عبد الحي بن الصديق الغماري: “الشرط الذي يقتضي عدمه عدم المشروط حكمٌ شرعي وضعي، لا يثبت إلا بصيغة تدل عليه، كتعليق الفعل عليه بأداة الشرط، أو نفي الفعل بدونه نفيا متوجها إلى الصحة لا إلى الكمال”.

فهل ورد من هذا القبيل ما يدل على شرطية العدد والمكان البارز المعلوم في صلاة الجمعة المنصوص عليه في فتوى الدكتور خالد حنفي؟

قد يقول قائل: استفدنا الشرطية في بعض الشروط من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا نقول:

** الفعل لا صيغة له، لذا لا يفيد الشرطية ولا يفيد الوجوب.

** الفعل النبوي لا يفيد الوجوب، قال العلامة المحقق التلمساني في مفتاح الوصول: “إن ظهر من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قصد بفعله القربة إلى الله تعالى فهو مندوب“. وما كان مندوبا لا يكون شرطا.

** على فرض أن الأفعال النبوية واجبة وشرط، وجب أن نقول بشروط أخرى لم يقلها الفقهاء، مثلا:

/// داوم النبي صلى الله عليه وسلم على خطبة الجمعة على طهارة، ولم يشترط الفقهاء الطهارة في الخطيب حال الخطبة. قال في زاد المستقنع: “ولا يشترط لهما الطهارة”. وهذا منصوص عليه في فقه الحنفية، وفي متن العشماوية في المذهب المالكي: “الخطبة الأولى، وهي ركن على الصحيح، وكذلك الخطبة الثانية على المشهور، ولا بد أن تكون بعد الزوال وقبل الصلاة، وليس في الخطبة حدّ عند مالك أيضا، ولا بد أن تكون مما تسميه العرب خطبة، وتستحب الطهارة فيهما”.

/// داوم النبي صلى الله عليه وسلم على الجلوس بين الخطبتين، ولم يقل الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة بأن هذه الجلسة شرط في الخطبة.

هذان مثالان، وغيرهما كثير، من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم التي داوم عليها ولم يقل الفقهاء بوجوبها، ولم يرتقوا بها إلى درجة الشرطية، فلماذا يعتمدون على صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للجمعة في المسجد على شرطيته؟.

ج – استند الفاضل المحترم السيد خالد حنفي في فتواه على اشتراط الجمهور لصحة صلاة الجمعة (عدم التعدد في البلدة الواحدة)، لأن الحكمة من المشروعية هي الاجتماع والتلاقي، وأجاز تعددها الفقهاءُ للحاجة، ليخلص إلى التساؤل: “إذا كان الفقهاء قد منعوا تعدد الجُمَع بالعدد الكبير في المساجد مع الأئمة في البلد الواحد، فكيف نُجوِّز تعددها في البيوت اليوم بأعداد لا تحصى؟”.

والاستناد على اشتراط عدم التعدد، نقول فيه ما قلناه أعلاه، ولم يثبت في آية أو حديث ما يفيد منع تعدد صلاة الجمعة في البلدة الواحدة، وإذا بطل الأساس بطل ما بني عليه.

أما الحكمة فنرجئ الحديث عنها إلى آخر المقال.

د – القول بإقامة الجمعة في البيوت قول مُحدَث، يُخل بمقاصدها الكلية والجزئية، ويُخشى معه من وقوع الاستهانة بهذه الشعيرة العظيمة.

الخوف من الاستهانة بهذه الشعيرة مجرد تخوف غير مبني على أساس، لأن المستهينين بشعيرة الجمعة سيستمرون على استهانتهم بها [ونرجو ألا يستمروا]، وهم الذين كانوا يتخلفون عنها لغير عذر، وكانوا يجلسون في المقاهي المجاورة للمساجد والإمام يخطب، أما المصلون رواد المساجد، فقلوبهم تتفطر كمدا على إغلاق المساجد للضرورة، وخدودهم تَرويها المُقل والعيون بالدمع الحار، وهم يرون الحرمين الشريفين وعموم المساجد خاوية مغلقة بدون مصلين، سواء في الجُمع أو الجماعات، وما أن يرتفع الوباء عن الإنسانية حتى نراهم إن شاء الله مهرعين إلى المساجد، يَصِلون معها ما انقطع في عالم الأشباح، ولم ينقطع في عالم القلوب والأرواح. فلا داعي للتهويل بهذا العذر المبالَغ فيه من سد الذرائع.

واطلعت على فتوى الشيخ محمد رشيد رضا أثابه الله رضاه والجنة، وهي موجزة، تضمنت الآتي:

أ – صلاة الأفراد للجمعة في بيوتهم جماعات صغيرة، “هذا شيء لا نعرفه عن سلف المسلمين ولا خلفهم“.

 هذا كلام يتضمن نفي المعرفة بالشيء، ونفي المعرفة لا يدل على نفي الوجود كما هو معلوم، إذ قد يوجد من صلى بأهله وخلانه في بيت من البيوت مما لم يُحكَ ولم يصلنا. وقد وصلتنا بعض الحكايات عن سلفنا التي تنقض دعوى الفتوى، ذكر الحافظ السخاوي في الضوء اللامع أن أحد المالكية “نصب في داره منبرا، وصار يصلي الجمعة هو ومن يصاحبه، مع أنه مالكي المذهب، يرى أن الجمعة لا تصح في البلد ولو كبر، إلا في المسجد العتيق من البلد”.

وفي غير البيوت، ذكر ابن تغري بردي أن أحد أعلام القرن الثامن أسس مدرسة بالقاهرة، كانت تقام الجمعة بها.

 وعموما، سواء عرفنا ذلك عن السلف أم لم نعرفه، فإن هذا لا يفيدنا في مجال الاستدلال شيئا.

ب – شعائر الإسلام الظاهرة من حج وجمعة وعيدين والأذان … مما ثبت بالتواتر العملي المجمع عليه “الواجب فيها الاتباع، ولا يجوز فيها تغيير بزيادة ولا نقصان”.

ونحن نسأل الشيخ رشيد رضا: ماذا ثبت بالتواتر؟ هل ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الجمعة في البيوت؟ وهل ثبت أنه اشترط المسجدية في صلاة الجمعة؟ كل هذا لم يثبت آحادا أو تواترا، فكان استدلاله في غير مناطه رحمه الله تعالى.

نعم، لو ثبت ولو بالآحاد أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط ذلك لسلّمنا وخضعنا وقلنا سمعنا وأطعنا، ولما احتجنا إلى التواتر القولي أو العملي.

وأكرر أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يفيد الوجوب ولا يفيد الشرطية، وإنما يفيد الإباحة أو الندب بحسب السياق حسبما تقرر في علم الأصول.

ج – “إذا وُجدت جماعة في قرية ليس فيها مسجد موقوف تقام فيه الجمعة والجماعة، وأقاموها في بيت من بيوتهم، فإنهم لا يكونون مخالفين للمأثور”.

 هنا نقض الشيخ رشيد رضا ما بناه، لأنه إن تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم شرط المسجدية، لا يجوز عدم الالتزام به في حالة أناس القرية الذين ليس لهم مسجد، وإذا لم يكن شرطا جاز لهم الصلاة في الفلاة أو البيوت.

وإذا وافقناه رحمة الله عليه في تقريره، وقلنا بأن عدم وجود المسجد عذر مبيح لإقامتها في البيوت، قلنا بأن الجائحة القاتلة التي تهدد العالم أجمع عذر أكبر من عذرهم، لذا كان قولنا بجواز صلاة الجمعة في البيوت تخريجا على قوله. والحمد لله رب العالمين.

و اطلعت على نصين للشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليه، يتداولهما رواد منصات ا لتواصل الاجتماعي، مفادهما أن صلاة ذوي الأعذار خلف المذياع لا تجوز، لأنه:

أ – ليس في جماعة، ويشترط في تحقيق الجماعة الاتصال، وألا تكون بينه وبين الجماعة مسافة كبيرة.

وهذا شرط لم أقف على دليله، والعمل اليوم على خلافه، ويكفي أن نرى مساجد العالم الإسلامي، حيث يمتلئ المسجد بالمصلين، ولا يجد بعضهم بدا من الصلاة في الشوارع والأزقة المحيطة، مع الانفصال عن المسجد بالشارع والشارعين وأكثر، فأين الاتصال؟ وهؤلاء لا يرون الإمام ولا يسمعونه، وإنما يسمعون من مكبرات الأصوات، وهي والمذياع سواء.

ومن يصلي مع إمام الحرم المكي خارج المسجد أكثر ممن هم داخله، وبعضهم ينفصل عن المسجد الحرام بأكثر من شارع، بل إن كثيرا من الفنادق المكية يخصصون قاعة/جناحا للصلاة، ويجتمع فيه المائات من المصلين، ولا يؤمهم أحد، وينتظرون إمام الحرم ليصلون خلفه، ولا يصلهم صوته إلا بالمذياع أو التلفاز الذي يُرْبَط مع مكبرات الصوت المبثوثة في جنبات القاعة، وحضرت صلوات كهذه، وكان معنا مفتي مصر وجماعة من علماء المسلمين شرقا وغربا، عربا وعجما، ولم يستنكر أحد، وكلهم أقر ذلك إقرارا عمليا لا شبهة فيه، مما يدل على أن فتوى الإمام الحافظ أحمد بن الصديق الطنجي المغربي كانت سابقة لزمانها، أما انتقادات معاصريه له فلم يبق لها أثر مع مرور الزمن.

ب – توجه الشيخ ابن عثيمين بالنقد للحافظ أحمد بن الصديق الذي ألّف رسالة في تجويز الصلاة خلف المذياع، وقال في نقده ونقضه لها: يلزم على هذا القول أن لا نصلي الجمعة في الجوامع، بل نقتدي بإمام الحرم، لأن الجماعة فيه أكثر، فيكون أفضل.

لم يذكر الشيخ ابن عثيمين اسمَ الحافظ أحمد بن الصديق الغماري، وأشار إليه بذكر كتابه الإقناع، بجواز صلاة الجمعة خلف المذياع، ومن خلال تعليقاته يتبين أنه لم يقرأ رسالته، واكتفى بقراءة عنوانها، ويكفي هنا أنه قال: “يلزم على هذا القول ….”، وغني عن البيان، أن الشيخ ابن عثيمين يعرف يقينا أن لازم القول ليس قولا، وكان حريا به أن يناقش الفتوى وينقضها وينسفها علميا، أما أن يولد الالتزامات، فهذا ليس من الصناعة الفقهية في شيء.

والحافظ ابن الصديق لم يتحدث عن صلاة الجمعة خلف المذياع بدون عذر، وإنما لذوي الأعذار، ونبّه في رسالته إلى أهمية المسجد وعمارته والصلاة فيه، لذا قلت بأن ابن عثيمين لم يقرأ الرسالة، وشرع في نقد العنوان ظنا منه أنه يرد على الرسالة وما فيها من أدلة وحجج.

ج – ذكر ابن عثيمين  أنه إذا جاء التلفاز يكون من باب أولى، وعلى هذا القول اجْعَل التلفاز أمامك وصلِّ خلف إمام الحرم، لأن الصلاة خلفه يشاركك فيها آلاف الناس بخلاف صلاتك في مسجدك الذي قد لا يبلغ فيه المصلون إلى الألف.

هذا من انتقادات ابن عثيمين للحافظ الغماري، ولست أدري، هل هذا كلام علمي يستحق الرد عليه أم لا؟

إذا أثبتنا الجواز بالمذياع، فإن الجواز يتعدى إلى التلفاز والبث المباشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وإلى غيرهما من الوسائل التي لم نتوصل إليها، وهذا من المتماثلات التي لا نفرق بينها. مع التذكير أن هذا مقيد بالعذر، أما في الحالات العادية التي لا عذر يحيط بها فلا ولا ثم ألف لا. فلماذا نتغافل عن هذا لنقرر ما نريد تقريره وكفى؟ !

د – قال الشيخ ابن عثيمين: هذا القول باطل، لأنه يؤدي إلى إبطال صلاتي الجمعة والجماعة.

هذه دعوى الشيخ ابن عثيمين، ومما لا يجهله أحد، أن الوصف بالبطلان لا يستقيم إلا إن دللنا عليه بأدلة قوية، وهذا ما لم يقم به الشيخ، فكان قوله (باطل) عين الباطل.

هـ احتمال انقطاع التيار الكهربائي أو انقطاع البث لعطب ما.

أورد الشيخ ابن عثيمين على كتاب الحافظ الغماري هذه الشبهة، أو هذا الإلزام، وهذا ما يؤكد لي أنه يرد على الكتاب دون أن يقرأه، لأن الحافظ الغماري تفطن إلى هذه الشبهة، وأوردها في خاتمة كتابه، ونصه: “إذا حصل ذلك في أول الخطبة فلم يسمعها، فقد بطلت جمعته، ويجب عليه أن يصلي الظهر، وإن انقطع التيار بعد سماع الخطبة والدخول في الصلاة، فإنه يستخلف أحد ممن معه، ويتم صلاة الجمعة، والله أعلم”. وهكذا انقطع الإشكال. والحمد لله.

وليت الشيخ ابن عثيمين قرأ الكتاب قبل أن يرد عليه، آنئذ لم يكن له ليورد عليه إشكالا سبقه إليه المؤلف، بل سيكون أمام خيارين، إما الاقتناع بجوابه، أو الرد عليه، وهذا ما لم يقع للأسف.

وأخيرا: هناك من يعتمد المقاربة المقاصدية لصلاة الجمعة، بناء على أن الحكمة منها هو لقاء الناس بعضهم ببعض، ومصافحتهم والسؤال عن أحوالهم، إلخ ما يقال.

وهذا اللقاء الأسبوعي في الجمعة أو السنوي في العيدين، هو من جمالية هذا الدين العظيم، وما كان من الجماليات والتحسينيات فلا نرتب عليه أحكاما خاصة، ولا نتعامل معه كمعاملتنا مع الضروريات أو الحاجة العامة الملجئة.

إضافة إلى ذلك، فإن المالكية جوزوا صلاة الجمعة باثني عشر نفرا، فهل هذا العدد هو الذي يفيدنا فيما يعتمد عليه أصحاب هذه المقاربة؟ ومن الفقهاء من قال بأقل من هذا العدد.

وإذا أردنا استعمال المقاربة المقاصدية، فهي في صفنا وليست في صفهم، وهي عمدتنا وليست عمدتهم، ومن القواعد المقاصدية الكبرى، أن الدين يسر، وهذا ما يتوافق مع سماحة هذا الدين، وما تقرر فيه وتواتر من ضرورة رفع الحرج.

وما الشروط وكثرتها وتوليدها وربطها ببعض العبادات إلا من باب إيقاع الحرج لا رفعه.

لهذا أقول: إن من يسر الشريعة الإسلامية أن نقول بجواز صلاة الجمعة في البيوت، وقولنا ليس من باب التشهي والقول بلا دليل، بل نعضده بمجموعة من الأدلة والاعتبارات، منها:

أولا: عموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا”، وبما أن الأرض كل الأرض مسجد، فإنها صالحة لإقامة صلوات المسلمين، فرادى وجماعات، جُمعا وفرائض ونوافل. ومن ادعى تخصيص هذه الفضيلة فهو الملزَم بالدليل.

ثانيا: أول من صلى الجمعة هم أهل المدينة، صلّوها قبل أن تنزل سورة الجمعة، وهم الذين سموا ذلك اليوم بهذا الاسم، وكان يسمى يوم عروبة، وأول مرة صلوها كان في نقيع الخضمات، والنقيع هو المكان الذي يجتمع فيه الماء، وإذا نضب نبت فيه العشب، وهو ليس مسجدا مبنيا ولا مسقفا.

وثبت في كتب السيرة أن مصعب بن عمير صلى بالصحابة الجمعة في دار سعد بن خيثمة، والدار ليست مسجدا.

وكان ابن عمر يمر على أهل المياه يصلون الجمعة بين مكة والمدينة، لا ينهاهم عن ذلك ولا يعتب عليهم، وأهل المياه هم الرحل الذين يتبعون الماء.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك الجمعة في بني سالم، فصلاها في بطن الوادي، رواه الطبراني، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، وضعفه غيره، لكنه مؤيد بالأدلة الأخرى أولا، ومؤيد بالأصل الذي هو عدم اشتراط المكان ثانيا.

ثالثا: لو كان المسجد شرطا لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم.

رابعا: نحن الآن في جائحة لا نعلم متى تنتهي، وقد نبقى بدون صلاة الجمعة مدة طويلة، لذا كان الاهتداء إلى إقامتها في البيوت أفضل وأولى، لربط أنفسنا وأهلينا بهذه الشعيرة، وعدم الانقطاع عنها، مع الأمل بوقف هذه الحالة الاستثنائية، والرجوع إلى مساجدنا سالمين إن شاء الله.

وفي الختام، أنبه إلى أن كلامنا منحصر في مناقشة الجواز من عدمه، ولا نقول بوجوب إقامة صلاة الجمعة في البيوت، فمن أقامها مع أهله وذويه، فله ذلك، ومن لم يقمها للعذر العام فلا حرج عليه.

يبقى أن أشير إلى مسألة ذات صلة، وهي أن التوجه إلى الله تعالى واجب، لقوله تعالى: “ادعو ربكم تضرعا وخفية”. ولا يكون المؤمن مؤمنا كامل الإيمان إن أعرض عن دعاء الله تعالى والتذلل بين يديه، “قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم”، وهذا وقت الدعاء قبل الصلوات وأثناءها وفي أدبارها، قياما وقعودا وعلى الجنوب، ومن أراد أن يخطب الجمعة على أهله وولده، فليغتنم الجلسة بين الخطبتين، فهي من مواطن الاستجابة.

الله الطف بنا في قضائك السابق.

اللهم أنزل علينا رحمتك التي لا حد لها.

اللهم أذهب عنا الغم والهم والحزن.

اللهم سلمنا من كل مكروه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد