الرائدة في صحافة الموبايل

من وحي كورونا

ذ. نور الدين الحاتمي

عند كل جائحة أو مصيبة أو كارثة ينبري كل من “رجال الدين” وخصومهم لتبادل الاتهامات والاتهامات المضادة، و الطعن والطعن المضاد. وفي كل مرة ينشأ الخلاف بينهم ،يكون هذا الخلاف نتيجة اختلاف تصور كل منهم و مرجعيته  ومركز رؤيته، فحيث يزعم “رجال الدين” أنهم يفسرون كل شيء انطلاقا من الدين ـ الذي هو قال الله وقال رسوله ص ، يدعي خصومهم أن مرجعهم “العلم” و”المعرفة”. وعلى الرغم، من أن هذا النقاش، ينبغي أن يتوقف عند هذا الحد ولا يتجاوزه إلى غيره، لأنه ـ في النهاية ـ نقاش عبثي ولا معنى له، وذلك لاختلاف المرجعية ومركز الرؤية، بل لاختلاف كل من مجال العلم ومجال الدين، ودائرة كل منهما عن دائرة الآخر، مما يقتضي معه أن يعتدي كل منهما على سلطان الآخر وان يتوقف كل من رجال الدين ورجال العلم عن التدخل في شؤون بعضهم .

إنني أفهم سر هذه الخصومة التاريخية وأتفهمها أيضا: أفهم أن الصراع بين “رجال الدين” والمنتسبين إلى معسكرهم، وبين غيرهم من “العلمانيين” او “بني علمان”ـ كما يسمونهم ـ  هو صراع مادي بالأساس، ومن أجل المواقع والمصالح، والهجوم على “الدين” هو هجوم يستهدف بالدرجة الأولى كسر وتحطيم القاعدة الصلبة التي يقف عليها “رجال الدين”: أي مصادر دخلهم وسلطتهم. و “الدين” لا يعنيهم في معركتهم إلا بقدر ما يفيد “رجال الدين”، و”رجال الدين” يستميتون في الدفاع عن “الدين” دفاعا ـأيضا ـ عن مصالحهم المادية،  و”الدين” لا يعنيهم الا بقدر ما يفيد في ضمان هذه المصالح، وتكريس تلك السلطة ،التي لا يسهل عليهم التخلي عنها.

إنني أفهم هذا الصراع وأتفهمه، لأن تضارب مصالح الناس وصراعهم عليها شيء طبيعي، وهو الذي يفسر لنا الاقتتال ، الذي ينغمسون فيه وينحدرون إليه ، و في حالات الصراع  و الإحتراب، يغيب المنطق ويغيب العلم، وتحضر “الديماغوجية” ويسود “الجهل المقدس”.

 والناظر في النقاشات التي صاحبت هذا الوباء وفٌتحت بشأنه، يتأكد بأن العلم كان غائبا تماما عن السجال، الذي دار حوله، وبدأ ذلك، منذ زعم بعض من “رجال الدين” أن هذا الوباء جندي صغير من جنود الله، سلطه على العصاة من عبيده وانتقم به منهم، لذنوب أصابوها وآثام اقترفوها، بل منهم من دعا الله إلى أن يزيد من هذه الوباء. وهذه الرؤية،  حتى وإن روجها كثير من “أهل العلم ” وبحثوا لها عن تأويلات من التفاسير، فإنها مردودة ويكذبها الواقع والتاريخ، فقد عرف تاريخ الصحابة ،والصالحين من بعدهم، الأوبئة والأمراض الفتاكة، وهلك كثير منهم، بفعله وتأثيره . وحتى الأنبياء جرى عليهم ما يجري على العباد فمرضوا وعانوا.   

الرؤية القرآنية ، التي علمنا إياها القرآن الكريم ـ وهو كتاب للإشارة يتضمن عددا من القوانين التاريخية والاجتماعيةـ تؤكد أن الفساد الذي يظهر في الأرض مرده إلى الإنسان، فهو الذي يتسبب فيه ويتحمل وزره، والآثار التي تترتب على هذا الفساد، هي أيضا من كسب الانسان.  والمعنى هنا واضح: إن تدخل الانسان في تغيير الطبيعة، بغير قواعد العلم ومبادئ الأخلاق، عدوان على ما يٌعد من خصائص الله و يجر إلى تخريب الحياة وتدميرها. والبشرية طالما أن طموحات الرجال فيها لا تتوقف، إذ هناك دائما توق لهذا الإنسان إلى أن يتربع على كرسي “الألوهية” فإن هذا التدخل سيظل دائما موجودا، والانسان لا يتعلم من الوحي في هذه المجالات ، وإنما يتعلم من واقع التجارب، وتطور العلم رهين بالتجريب ،وبالتالي، بالقدرة على المغامرة والمخاطرة . و الانسان ما دام إنسانا ، فسيظل مغامرا ومخاطرا ، و مغامراته  محفوفة بالمخاطر، وعليه، فإن مستقبل هذا الإنسان نفسه سيبقى مفتوحا على المجهول، وسيكون الأسوأ فيه ممكنا دائما. 

و”كورونا” على الرغم من قسوته وبشاعته وفظاعته، إلا أننا ـ وعملا بالمبدأ الذي مفاده أنه لا شيء خير محض أو شر محض ـ فإن ثمة جوانب إيجابية ينبغي تأملها والوقوف عندها، منها :أنه على الإنسان أن يتوقف عن غروره وتكبره، وأن يتواضع قليلا ويتنازل عن وهم “الوهيته”، فقد تأكد له أنه ضعيف وتافه،  ومنها: أن الحياة، في كثير من محطاتها المرعبة، تتوقف لتستعيد قوتها وتستأنف مسيرتها، وهذا الوباء سيسهم في تحقيق الطبيعة لتوازنها، لأنها هكذا تفعل دائما في إيجاد حلول لمشاكلها وهكذا تستجيب لتحدياتها. ونشير في هذا السياق إلى “نظرية مالتوس” التي تذهب إلى ضرورة تشجيع الحروب والاوبئة، للتقليل من عدد سكان الأرض بما يلائم نسبة النمو. وذلك بعد أن لاحظ أن الناس يزيدون بمتوالية هندسية في حين أن الموارد تزيد بمتوالية عددية، الأمر الذي تنتج عنه المشكلة. ومنها:  أنها كشفت أن الناس يتمتعون بقدر كبير من الجمال الاخلاقي والروحي، كشفوا عنه من خلال ما رأيناه من تكاتفهم وتعاونهم وتراحمهم.

وإذا كان هذا الفيروس الفتاك ، الذي لا يُرى بالعين المجردة ، قد جعل الإنسانية ومستقبلها على المحك، و وضعها في امتحان عسير، إلى درجة أن جعل العالم عالمين: عالم ما قبل كورونا  وعالم ما بعد كورونا وهما مختلفان : ألأول غير والثاني غير. و جعل العالم يطرح أكثر من سؤال ويفترض اكثر من احتمال حول هذا الوباء وسره ، وتداعياته وآثاره ، وفرض على العالم ان يقف أكثر من وقفة “حقيقية” يقرأ فيها واقعه ومصيره، ويتأمل كيف يمكن ان تكون التكنولوجيا التي يفرح بها تحمل وسائل وأسباب فنائه، أو كيف تتحول التكنولوجيا ـ التي خلقها الإنسان لخدمته ـ إلى عدوة له.  

فإن هذا النقاش الذي ينخرط فيه كل من المحسوبين على معسكر “رجال الدين” والمحسوبين على “خصومهم” ، سيكون له فوائده وأضراره .أما أضراره فغني عن البيان القول: إنه على رأسها إقحام الدين فيما ليس من شأنه ولا من اختصاصه، وزجه في معركة خاسرة ومعروفة مغبتها سلفا، فالدين، في العموم، وظيفته تحقيق التوازن النفسي للناس وبعث الطمأنينة والراحة في قلوبهم، بالجواب عن الأسئلة المصيرية الكبرى، وخاصة تلك المتعلقة بالموت أو المرتبطة به. والثابت فيه العقيدة والعبادات و مكارم الاخلاق، وينبغي أن يظل كذلك. والعلم دراسة للظواهر و تحليلها  وفهمها لتمكين الانسان من السيطرة عليها. والدين هنا هو” الدين” كما هو في نصوصه التأسيسية، وليس كما يؤوله رجاله . 

ومن فوائده ، أن هذه الهجمة التي يشنها خصوم “رجال الدين” على هؤلاء الاخيرين، تعيد السؤال حول “العلم” و”العالم” إلى الواجهة، إذ لا يزال العرب والمسلمون لا يفهمون” العالم” و”العلم” إلا مقرونين بالشريعة والفقه، في حين أن هذا المجال ليس له من العلم ـ كما تشرحه الإبستمولوجياـ إلا الدعوى، و”العلم” الذي كان ينسب قديما إلى “رجال الدين” ليس ما نفهمه نحن من العلم اليوم، لقد كان العلم لا يعني إلا المسائل التي يتشكل منها الفقه واصوله و قواعده.  و إصرار “رجال الدين” على رفضهم لهذا الوصف، وتشبثهم بكونهم علماء فيه تجن على المفهوم ذاته، 

وربما يكون عجزهم عن التصدي للأسئلة المحرجة التي يطرحها خصومهم  باعثا لهم على التواضع والانكفاء قليل الى الوراء، والقبول بالواقع رغم قسوته عليهم . إنني أفهم إصرارهم على تفسير الأمراض باعتبارها جنودا يسلطها الله على عبيده العصاة ، فهم ليس بمقدورهم أكثر من ذلك، فإذا كانت وظيفتهم هي القول نيابة عن الله،  فإن الأطروحة التي تقدمها هذه الوظيفة هي هذه، و فهم حقيقة الفيروس وفك شفرته والبحث عن عقار له يقي البشرية خطره موكول إلى “العلماء” الحقيقيين. 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد