الرائدة في صحافة الموبايل

زمن الجائحة وإعادة بناء الإنسان.. أو حين تتراجع الجغرافيا ليتحدث التاريخ..

د. محمد حماس باحث في التاريخ والتراث

أراود نفسي أن تخط البعض مما يحتبس في الخاطر من ألم وحسرة وحزن، بسبب ما يجري من حولها .. فتأبى إلا أن تلوذ بالصمت، وتستكين للحسرة على العباد وما حل بالخلائق من مصائب ونائبات تعتصر الأفئدة .. ينحبس الدمع وإن سال مدرارا .. لم يعد للأوطان حدود .. كلها موطني .. حيثما انطفأت روح وصعدت لبارئها، تداعت لها الإنسانية حسرة وألما .. فأتساءل بيني وبين نفسي، ما الأرض؟ .. ما قيمة كل هذا العمران دون من يعمره؟ ما أبخس هذه الحياة أمام كل مأساة تمر بها البشرية .. تاريخ حافل بالمآسي، ووحش التقدم والتحديث يلتهم الأخضر واليابس .. التهم القيم، وهاو يقضي على صناع التحديث .. هل كنا في مجتمعاتنا التقليدية ننعم بالراحة والعفوية والبهاء؟ هل كنا في حاجة لإخراج هذا المارد من قمقمه؟

تروي جدتي رقية بنت خرباش، أن الناس ماتوا، في بلدي بسبب الجوع والطاعون و”بوݣليب لكحل” .. وماتت أختي فاطمة ب”بوحمرون”، لأنه لم يكن من دواء آنذاك .. أذكرها جيدا وهي ممددة على الفراش الصغير في الزاوية اليمنى من الحجرة التي كانت في ذات الآن مطبخا وفضاء للنوم ليلا .. غابت عنها الابتسامة لحظات قبل الوداع الأخير .. كنت أراقبها وأنا بين دراعي جدتي .. بكى الجميع إلاي .. لم أكن أعرف للموت بعدا أو معنى .. غادرت ولم تعد .. كنت أسأل عنها جدتي فلا تجيب .. أدركت فيما تلى من السنين أنني كلما سألت عن فاطمة إنما كنت أفتح الجراحات وأزيد من حولي ألما ..

حدثتني جدتي عن الطاعون الذي حصد أرواحا كثيرة، ثم “بوݣليب لكحل” الذي أخذ منها عددا من أبنائها غير بعيد عن “مشرع ؤرݣاص” بآيث بويحيي عند مصب ملوية .. و”عام الجوع”، وكيف أن الضبع كان يدخل للدوار بحثا عن الطعام، فيأخذ الصبي على مرأى من والديه دون أن يستطيعوا صده .. كم عدد الأطفال الذين ماتوا بسبب “لݣرينة” و”العواݣة” و”بوحمرون” و”بوشويكة” الذي تظل آثاره بادية على الوجه بقعا صغيرة سوداء، ومن الأطفال من فقد البصر إن لم يفقد حياته .. عرفت سبب عدم بكاء جدتي رقية، لأن الدمع جف من مآقيها ..

عرف المغرب الأوبئة والكوارث الطبيعية على مر تاريخه البعيد. ولنا في التاريخ الحديث والمعاصر محطات مختزلة في ذاكرة النسيان .. عرف المغرب الطاعون لسنوات متتالية، خلال القرنين 16 و17 الميلاديين، أولها من 1521إلى1523، ثم من 1557-1558، ومن 1596 إلى 1610، ثم خلال الفترة من 1626-1631. وهو ما أورده المؤرخ الفرنسي Bernard Rosenberger في مقالة مطولة مشتركة مع الباحث المغربي حميد التريكي، عن انتشار الأوبئة والمجاعات تم نشره بمجلة HESPÉRIS TAMUDA، سنة 1974. ثم الكتاب الهام الذي خصه الباحث المغربي محمد الأمين البزاز للأوبئة، ووسمه ب “تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر”، حيث تناول بالحديث انتشار الطاعون منتصف ق18م، على التوالي عام 1742 واستمر لغاية 1744، ليظهر مرة ثانية من 1947 إلى 1951، مخلفا مئات الضحايا.

أما الوباء الأكثر ضررا فهو الكوليرا، أو ما أسماه المغاربة ب””بوݣليب” والذي امتد لفترات متقاربة خلال ق19م: سنوات 1854-1855، و1859-1860، و1895-1896. الكوليرا التي كانت مأساة حقيقية، لا زالت الذاكرة الشعبية المغربية تحتفظ بجراحاتها حتى الزمن الحاضر، بل أضحت نعتا يعبر عن ذروة الأسى، وهو مصطلح متداول، فيقال: “بوݣليب لكحل”. كان ليضاهيه وباء التيفوييد سنة 1878 إذ كان يخلف مئات الضحايا كل يوم، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية والاجتماعية، والخوف والهلع الذي جرى بين الناس ليحطم نفوسا ضعيفة … وبعد الكوليرا بسنوات قليلة حل الجراد بسبب الجفاف سنة 1890، فنتج عن ذلك وباء الجدري مخلفا مئات الضحايا بربوع المغرب. وخلال النصف الأول من ق20م، أي خلال فترة الاحتلال الفرنسي والإسباني للتراب المغربي، سوف تتفشى المجاعة بين الناس لدرجة لا تطاق، إذ لم يجد الناس ما يقتاتونه، فمات منهم خلق كثير، ومات الصبية والشاة، فانتشرت الأمراض الفتاكة، لتعود الأوبئة من جديد، منها التيفوئيد والطاعون والجدري والسل والحصبة … فأقبل الناس على أكل الجراد وما ظفروا به من نبات بري …

الان ونحن أمام جائحة أخرى، فإن الإنسانية أمام المحك. والمغرب جزء من هذا الكل. الأمر لا يتعلق بحدود جغرافية. الجهود جميعها تصب في اتجاه إنقاذ الأرض ومن عليها. لا يمكن الخوض في التأويلات وتحميل المسؤولية .. البشرية تتساقط .. ينهشها الموت .. العجز رغم التحديث والتطور التكنولوجي .. لا يمكن هزيمة الشر بمضاعفة الإنتاج والتطور التكنولوجي وغزو الفضاء فقط. لابد من القيم التي يتجلى فيها ومن خلالها عمق الإنسانية .. المشترك الإنساني هو الذي تم تغييبه في كل المعادلات .. إنتاج الدمار، والتهافت نحو الثروات، وخلق بؤر التوتر واستعمار الشعوب، وسلب الحريات، والتبعية، والاستعمار الجديد …

تفشى الجهل قبل الوباء وتفاقم .. طمس معالم المدرسة العمومية لعقود متتالية، كان طبيعيا أن يفرز جيشا من الجهلة، لا يمكن لومهم لأنهم نتاج سياسة فاشلة على مستوى تدبير عدد من القطاعات، وأهمها التعليم. ثم أحزمة الفقر التي طوقت المدن وتحولت لقطيع انتخابي .. لا ألوم الجاهل بل كل اللوم على من صنع الجهل والفقر.

أما المغرب، فأكدت السياسات المتعاقبة أن الحكومات المتتالية، وأصحاب المصالح، وكل من أوكل إليه تدبير شأن المجتمع، العام أو المحلي، تأكد أن هؤلاء ظلوا يدفعون بسفينة البلد نحو الهاوية .. لا ملاذ غير إصلاح المدرسة العمومية في بعدها الوطني. لأن المدرسة العمومية هي المشتل الوحيد لإنتاج الأطر التي ستحمي هذا البلد، من صحة وأمن وإدارة وسلطات … المدرسة العمومية هي الحصن .. المدرسة العمومية بختلف مكوناتها هي السبيل للخروج من التخلف واللحاق بركب الحضارة، ومن دونها سيتحكم في مجتمعنا الجهلة من رجال الدين، ومافيات الفساد، والأميون داخل المؤسسة التشريعية والجماعات المحلية .. فهل سيتعظ المسؤولون أم أن الذاكرة للنسيان .. إن كان في العمر بقية..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد