الرائدة في صحافة الموبايل

الأوبئة بين التفسيرين العقلاني والخرافي: كورنا كوفيد 19 نموذجا

عبد الواحد حمزة

 -1 يعرف المغرب كبلد شمال-افريقي-عالم-ثالثي، وكذا، باقي بلدان العالم، أزمة جائحة كورونا؛ إذ ظهرت أول حالة لكوفيد 19 المستجد بالمغرب في 2 مارس 2020، وفي 10 مارس سجلت أول حالة وفاة لتصل الإصابات الي 1888 الي حدود 14 ابريل، توفي منهم 126 شخص؛ فهل اكتملت الصورة النمطية في هذا الوباء لنجعل منه نموذجا يختزل باقي عنوانين الأوبئة التي عرفها المغرب عبر التاريخ؟

فهل الأوبئة “أوبئة”، بغض النظر عن الزمان والمكان، وما هي أشكالها التاريخية وما مداها؟ هل هي أمراض طبيعية أم، مرتبطة بمقدورات الانسان و، بأحقاب مختلفة وبأنماط متوالية او، متعددة للنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية العامة؟ هل الأوبئة والمجاعات التي عرفها المغرب عارضة ام بنوية؟ وماهي الآثار التي تخلفها علي جميع الأصعدة؟ 

     هذا ما يطرح الندوة في إطار “دياكروني”، أولا، وقبل كل شيء، ليطرحها، بعد ذلك، في سياق “ساكروني”، إستخراجا للعوامل الهيكلية الثابتة، نسبيا، وإستشكالا، في العمق، للموضوع، موضوع الندوة “الأوبئة بين العقل والخرافة”، في أفق استخلاص الدروس واقتراح البدائل. والحال أن وباء ك- “كوفيد 19” ليس بالظاهرة العابرة، إذ عرف المغرب عبر مراحل أوبئة كثيرة، ثم أن مقاربتنا لوباء كورونا، بالرغم من نموذجيته، مقارنة  مع الجائحات و الأوبئة الأخرى )الجفاف، الرياح، الزلا زل، الأ مطار،(…،المجاعة يندرج ضمن مقاربة شمولية نريدها مركبة، متأصلة في الطبيعة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، عموما.

ولهذا فنقاشنا اليوم حول الأوبئة يندرج ضمن إشكالية تفكيك ونقد وتحليل أوسع، نريد أن نستشف منه مدى المشاركة الاجتماعية في إرساء قواعد التحديث ببلدنا، حتى لا تبقي “مناسباتية” وحتى تندرج ضمن فلسفة عامة للبلد، دولة ومجتمعا،  متطابقان. فالتصدي لهذه المهمة لن يقوى عليه إلا أهلها، العلماء والمثقفون والمفكرون، بالرغم مما أصابهم في الماضي القريب من هون وتهميش. فلعل من حسنات “كوفيد 19 المستجد ” أن أعادهم للواجهة لتحمل المسؤولية التاريخية لبلدانهم، بل وجعله الأولويات والاختيارات الاستراتيجية تتغير، أو، على الأقل، تحط محط التحري الحاسم والصريح من لدن الجميع، نخبة ومجتمعا.

 -2بالرغم من الفتاوي الرسمية الممركزة – تأصيلا وتنزيلا)-كما يقول الفقهاء( وحزم وغزل السلطة، فالكثير من أفراد المجتمع لا زالوا، سرا أو علانية، يثيرون شيئا من الضجيج والعاطفة والأسف والبكاء والتشكيك وتغليب منطق النقل على منطق العقل، وكأن قدرنا أن نجد الخرافة والأسطورة والتأويل المتخلف للدين، كلما ظننا أننا قطعنا معها! قد يكون هذا صحيحا، لكن لعله ليس كذلك في الأزمات الكبرى التي تهز كيان الأمة والإنسانية جمعاء. لذلك، تظهر الدولة أن ما يربطها بالمجتمع، في الظروف الاستثنائية، ليس السيطرة والتحكم بل التعاون والمصير المشترك، فلا يبدو أنها مضطرة، قبل وبعد كل شيء، لإبراز دورها ” كدولة رعاية” وكمؤسسة تمثل الوعي والضمير الجمعي.

هكذا يتوارى إلي الخلف كل التافهين والراقين والتكفيريين وأصحاب الدجل والشعوذة، محمولين على  أكتاف الفقراء والجهل، حطب نار -جهنمهم، في ذلك، المئات من الباعة المتجولين المعوزين وفئات عريضة من انصاف المتعلمين والمترهلين من الطبقات الوسطى، و لأن الأمر جد، فلم يبدو العالم برمته مستهدفا، كما يبدو اليوم مع “جائحة كورونا”، مما جعل كتائب وأبواق الإسلام السياسي تحتشم أو، تقبل على مضض، وذرائعية مبتذلة، بوجوب إعمال العقل وتحميل المسؤولية للدولة الاجتماعية، والبحث عن” الإستفاذة” و” المنفعة المحمومة”، فيما الكثيرمنهم لم يستوعب، بعد، معنى” الدولة  الحديثة!” 

لقد وجدنا أنفسنا أمام مقاربات كبرى منها  “العصرية”، ممن ينتصر للعقل والعلم، بدرجات مختلفة، ومنها “التقليدية”، ممن يلوك في صمت و”هلع الغريق” الخرافة والأسطورة والغيب، ولا يمكن إلا ان نتساءل عن القوى الاجتماعية والمؤسساتية الحاملة لكلا الوعيين والمشروعين الاجتماعين: الوعي العصري والوعي التقليدي.

لا يمكن إلا أن نتساءل ، أيضا، عن نسبية المعرفة العلمية والتقنية، ذاتيهما، إذ كثيرا ما تخطئ تلك المقاربات العلموية، حين تطمئن لانتصارات حقيقية على عدة أوبئة، بعد تحجيمها والتحكم فيها في رمشة عين ! فلا شك ان العلوم الدقيقة تطورت، لتتضح حدود ما راكمته الإنسانية، وما شارك به المغرب  -بشكل ضئيل وغير مباشر- عبر “نخبه العلمية المهاجرة”، من علوم طبيعة-اجتماعية وإنسانية واجتهادات وتكنولوجيات متقدمة.

 لقد تأكد للمجموعة العلمية الوطنية والدولية، أن مبدأ عدم اليقين والفجائية والقفزات الهيكلية غير- المنتظرة(…) أصبحت القاعدة العلمية لعالم اليوم، أكانت أنظمة طبيعية-بيولوجية أو سياسية-اجتماعية، وأصبح التنبؤ بما سيأتي غدا من سابع المستحيلات، وهو ما يدعو صراحة إلى عدم الاطمئنان إلى كل الأحكام الجاهزة، بل وعدم الاطمئنان إلى ما يشوب سلوك القوى العظمى وحلفائها، في الداخل والخارج، من غرور وتهور وهرولة وهروب نحو العنف المادي والمعنوي، والحرب و تسليع للقيم وتدمير للطبيعة والانسان، في بحث محموم نحو الحا ئط:  الربح الرأسمالي-الإمبريالي الأقصى.

إن تلك السلوكات هو ما شاب -أيضا- طرق التعامل مع الأوبئة في البلدان الأقل شأنا، بما هي كوارث طبيعية يصعب على الإنسان معرفة مصدرها) الطاعون، الكوليرا ، الجذري، الزهري، التوفيس،(… . لا نضيف شيئا ما، ربما، إذا ذكرنا أن الأوبئة أسقطت العديد من الدول التي حكمت المغرب وعصفت بشرعية العديد من السلاطين عبر التاريخ (المرابطين، الوطاسيين، السعديين،  السلطان سليما ن،… )، إذ لم يكن للمخزن، البتة، سياسة للتعامل مع الجائحات ولا الوسائل ولا الإراد ة /الإدارة لحماية المغاربة، إلى أن جاءت السلطة الاستعمارية، لتدمر وتبني السياسات والمؤسسات، ولتشرع، بعدئذ ، دولة-المخزن، للاستقلال السياسي المغربي، باتخاذ احترازات مهمة، لكن يبدو أنها لا ترقى الى مستوى الاستراتيجية العامة المحكمة. وسيقف المغرب، اليوم، مع “جائحة كورونا”، دولة- مخزن ومجتمع عتيق و عميق ، على “رهاب” و”ذعار” كبيرين، ولتبرر “الضرورة الإستثنائية “قسوة تعامل السلطة مع “المواطنين”-“الرعايا”، ولتجنى في العديد من   المرات الكثير من سوء الفهم، لأن من يزرع الهواء”/ البرد” يحصد العاصفة!.

 لكن إذا فعل هذا بنا ما فعل، اليوم، فكيف سنكون أمام “حرب نووية”، مثلا، أو أمام “احتباس حراري”، الماثلان بقوة أمامنا في المد ى القريب؟ ! هل ستنفع معنا، مرة أخرى، المقاربة الاستباقية-الأمنية- حد “السلطوية”، مما نخاف أن تستوي وتستقوي، أم يتطلب ذلك بناء الإنسان الحر والوطن القوي، وتغيير الاختيارات من توفير الإمكانات البيئية والاقتصادية والصحية والثقافية، تجعل الإنسان  في صلب النماء وفي عمق “الأمن القومي”، حقيقة . هذا ما سيتبث السلوك الحضاري الواعي والمسؤول لدى الجميع، وهو ما يتطلب المشاركة الجماعية لبناء “عقد اجتماعي جديد”، محوره التربية والتعليم والصحة والبحث العلمي الأساسي والتطبيقي، برجالاته ونسائه، أي بموارده ورأسماله البشري-الحق.

تعتبر التفسيرات الخرافية-الأسطورية- الغيبية التقليدية، والقوى الإجتماعية المتخفية وراءها، عدوا مبينا واضحا وصريحا للتفسيرات العقلية-العلمية، ولقوى التقدم والديمقراطية والتنوير، الحاملة لمشعلها. والحال، أن لا أحد يملك التحليل والحقيقة المطلقتين، لأنهما غير موجودتين،  أصلا!. أفليس في تواضع العلماء والمثقفين والممارسين في حقول العلم المتعددة، من شيء، أن “يسمعوا” لبعضهم البعض، أن يتجادلوا، بل و يتنافوا، ضمن شروط الإنتاج العلمي للمجموعات العلمية، ذاتها، حتى يبتعدوا عن “دوغما” العقائد المتحجرة والأحكام المطلقة؟ كيف لهم أن لا يضربوا بعرض الحائط أبجديات العلوم: نسبية المعرفة بالموضوع، فجائيتها، عدم يقينيتها وتعقد تركيبتها؟

أليس من شروط المعرفة الخلاقة أن تستحضر، باستمرار، إعمال العقل التاريخي وإعلاء الذكاء والتفاؤل الإنسانيين، من جهة، فيما لاتستهين، أبدا، بالحيطة والحذر والنسبية والسببية والملاحظة والمصادفة والضرورة والمباغتة في شؤون الطبيعة والمجتمع والفكر الإنساني، من جهة أخرى؟

 إلى أي حد، اليوم، نحن متساوون جميعا، حقا، دولا وشعوبا، افرادا وطبقات اجتماعية، أمام أوبئة “بدون عقل”، لا يعقلها، بشكل أو بآخر، إلا ارتباطها الحميمي، بنظام اقتصادي-اجتماعي-عالمي “نيوليبرالي” متوحش، يغلب المصلحة الفردية على الجماعية، والأنانية على قيم التضامن والعدالة الاجتماعية والمجالية. هذا يجعلنا نكتشف، على حين غرة، الوجه الآخر المضمر للعقد الاجتماعي الوطني ولنظام عالمي جديد قيد التشكل والتبلور! هكذا عند الشدائد يلزم الطبقة السياسية الخرس والإصغاء لتتعلم، ولا يمكن إلا أن تستنجد باستجماع النخبة المثقفة لإعادة صياغة السؤال والعمل على تفكيك المفاهيم والبحث عن المعنى. 

-3 يبدو ، مما سبق، أن الإبدال العقلاني المسلح بالعلم والمبني على المسؤولية والمحاسبة والملاحظة والسببية، والقائم على تدخل السلطات العمومية لضمان تنظيم المجتمع و الحريات، والساهر على خدمة المواطنين، ما أمكن، أي في سياق وطن – مجتمع “ناميان”، يشكوان من خصاص كثير، هو الإبدال الذي يحاذي التفسير الأمثل – وليس المطلق – ، لأنه هو، أيضا، يعاني من قلة حيلة التجربة الإنسانية والخبرة الكافية في دروب العلم، مما جعله – كما بباقي أصقاع المعمور، يلجئ إلى خبرات قديمة – “كالحجر الصحي”، مثلا، يحجر على نصف الإنسانية في المساكن ليحتموا من » جند كورونا « ! ، عوض الاهتداء إلى لقاحات فيروسية ناجحة وفي مستوى العصر، عصر بدا وكأنه في بداية البشرية، أو ماقبلها، في إشارة مهولة وصادمة إلى ماقبل التاريخ الإنساني.

 هكذا اعتمدت السلطات  سلوكا عقلا نيا، ما استطاعت،   في ظرف عولمى متآكل . هكذا، أيضا، ظهر أن الإبدال الخرافي – الأسطوري – السلفي والإخواني، في العالم العربي – الإسلامي – وفي المغرب، بالذات، لم يستطع – رغم تطور ردود فعله السلبية – أن يقدم أدنى “تفسير” بالمعنى المنطقي – العلمي للكلمة، أكان في مجال الإسلام السياسي، بكل تلاوينه (العدل والإحسان، العدالة والتنمية والجماعات المرتبطة بها، أو الشعبي/ الشعبوي – المبتذل.

 لا يعدو أمر هذا الإبدال أن يكون “دعاوي ميتافيزيقية”، وما هي كذلك، بامتياز، ما دامت الميتافيزيقا نظاما فكريا – فلسفيا – مثاليا متسقا. والحال، أننا وقفنا على تطور تلك “الردود – الفعلية” للجميع؛ وإذا كان إيديولوجيو وديماغوجيو التيار المحافظ يعقلون مصالحهم الفئوية ويعتدون بمصالح الطبقات الاجتماعية الحاكمة، ممن يخدمون، مقدمين وظيفة واعية لنشاطهم » الحربائي « ، فإن » عامة الشعب « خبرت وحاولت استعمال “الحس السليم”، بعد ارتباك واضطراب طويلين ،تعاطيا مع الخطاب الإسلاموي المتوافق والمترسخ  في الثقافة السفلى، تحت وطأة السلطة العملي (…)، فيما الإبدال القروسطي ظل يلوك ما تيسر من طوطولوجيات فارغة، لكن حتما، ذات أبعاد خطيرة على صحة المواطن الذاتية والمعنوية – الروحية، بل ويهدد مصير النوع البشري وحس المواطنة والإيمان بالحقوق والواجبات، إذ لم يرقى، قط، إلى مستوى “الإصلاح الديني”، بل حاربه، واضعا “العناية الإلهية” (فولتير) في ورطة، في وقت كان من الأجدر للآلهة أن تنسحب (كانط) ، رحمة بها وبالموطنين، وأن لا تتورط في ظواهر علمية – طبيعية واجتماعية وإنسانية، أصبحت أكثر فأكثر معقدة وعصية على الخرافات والأساطير والأديان و »العلوم العصرية «– في مستوى تطورها، اليوم.

 لقد لوحظ، ونحن على مشارف “رمضان الكريم”، تناثر أبواق/ خطابات -حد الهذيان- والجنون والتعنت و”التأعلم” المكشوف، لداعيات “متأسلمة”، تقف ممسوخة في وجه الدولة وتدعو العصيان – دون نجاح حقيقي يذكر–  بل وحارب أبجديات العلم الدقيق، والطب ! ، خصوصا، بما تعتبره “إعجازا علميا للقرآن”، وصفاتها في ذلك، « القرنفل «  و »الحبة السوداء »  و »بول » و »روث البعير» وكذا، الصوم – دون اعتبار لصحة المرضى- في محاولات يائسة لتأييد غشاوة الجهل على البصائر ولترميم بكارة غيبيات، بدون ادنى معرفة موضوعية بالموضوع ، مثلها في ذلك، مثل الغرقى المتمسكين بقش النجاة ! 

 خوفي كل خوفي، أن تنبعث تلك “التفسيرات” التي هي ما  « بتفسيرات »، وإنما هلوسات ووساويس وتخيلات وتهيئات، لم تتجاوز حد الغرائز ورد الأفعال الأولى والبدائية على الصدمات والكوارث الطبيعية والاجتماعية، خوفي أن يبقى لها المجال والوسائل والدعم والتواطؤ والمصالح المشتركة، التي تسمح لها بالصول والجول والانبعاث-  كالعنقاء من الرماد، متى مر « تسونامي كورونا » القوي، لأنها، لعمري، من النوع الذي يتعايش – ككورونا بالذات – مع قوى التسلط والاستبداد والاستغلال المتوحش! فهما وجها ن لعملة واحدة . إنها من فصيلة ديماغوجيي السلط التقليدية المستجدة التي تفرق أو، تحاول ذلك، على الأقل، بين “قوى الشعب الواحد”، فيما اعتبرت وكفرت قسما منها، “الشعب المضاد”، والقسم الآخر، “القسم الآمن”، غير أن الحس السليم والعملي للجميع – وخاصة فيه، حس من أهلكهم شظف العيش – علم الكثير منهم تهافت” أسطورة الخلاص الفردي”، وأصبح يبحث، بدرجات، عن الانتشال من براثين الخرافة والخوف والانهيار، ويطرح الأسئلة القوية على المجتمع والدولة. لم يكن التدين يوما موتا، بل » حياة «، وجعله « اختيار شخصي » سيجعله في أجمل حُلله، فضلا عن ارتباطه بحرية تطور الأفراد وتطور فكرهم وتطور تمثلاتهم الفردية والجماعية عن الوجود والعالم. إن التقدم وإنقاذ الأفراد و »قوى الشعب » من الخرافة مهمة للنخبة المتنورة، بل هي من صميم المسؤولية “الرعوية” للدولة – المدنية الحديثة.

لا يمكن للأمة أن تنسى ذاكرتها الجماعية المتضامنة عبر التاريخ الطويل – بالرغم من صراعات المخزن – السيبة وصراع القبائل والطبقات الحديثة – الهشة – داخل نفس القطر المجتمعي والدولي. لا يمكن السماح لقوى الظلام بإسدال الغشاواة والطلاسيم على الواقع الاجتماعي – السياسي – الثقافي- الصحي – التعليمي للوطن الواحد. كثيرة هي مهام النخب – المثقفة – قبل السياسية – أحيانا كثيرة، للتصدي لأعداء الذاكرة الحية – المتلملمة والصامدة للمغاربة، قصدا، أبواق الدجل والشعوذة والخطر على الوطن والمواطنين!

 -4يبدو أن الحامل، اليوم، للمنحى العقلاني، نسيبا، هو “الدولة المدنية” – فيما هي كذلك، بالرغم من أن دستورنا يجعل “الإسلام-دين الدولة”، حيث علمانيتها هجينة – لكنها « أكيدة! » هناك عناصر متعددة ومتشابكة موضوعية تدفع في اتجاه ذاك المنحى، دفعا.

 نذكر، أولا، بهول الضربة القاسمة على المستوى القطري– ولا نقول، حتى المغاربي أو العربي، لأن المشاكل بدت كذلك، ولم تكن بتلك الأبعاد، قطعا، وكذا كانت محاولات الحلول قطرية، أيضا. 

ثانيا، على المستوى الدولي، حيث اضطربت أحوال الدول والقوى العظمى، واحدة واحدة، وكان من حسنات ما تبقى من “عولمة العالم ” المنكسر، ومن الانعكاس الإيجابي “اللطيف” لذلك على مجتمعاتنا العربية الإسلامية، وعلى المغرب، بالذات، أن خفف “الوباء الكوكبي” من  جسارة وتغول الفكر– الحس – اللاوعي الخرافي في مفاصيل ومنابر المجتمع العتيق والدولة العميقه وسلوك رجال السلطة، المتشبع ب »المخزنة «  إلا ما نذر، وانفلت. والحال أن انحسار الفكر العلمي، وحدود عمل مختبراته، وشروط إنتاج ذلك الفكر واستثماره، جعل ذلك “الحس الخرافي المشرعن”، والمرفوع إلى مستوى المعرفة النافعة” لمن هب ودب من عموم الشعب، يخرج من قمقمه العاجي، ليعطي وصفات “علموية” وليحذر من العلم ورجالاته ونسائه! 

ثالثا، الاعتبار الضمني- وعلى مضض وبينة  -لنتائج ومناهج ومفاهيم العلوم الموضوعية، حقه، اجتماعية وإنسانية، بل والتقدير “بالقوة” لا بالفعل، للخصوم ولمناصري تلك العلوم، ممن يعتمدونها في سلوكها وبرامجها وخططها العلمية – جمعيات – قوى سياسية، الخ. في حقل الصراع الاجتماعي العام، بجميع مستوياته وأشكاله، تعتبر القوى التقدمية–الديمقراطية – العلمية والتنويرية من قوى المجتمع الموضوعية، تاريخيا، المتمثلة حسرا لتلك البراديغمات البديلة. 

والحال أن السلطة تتعامل معها بحذري باستقطاب لنخبتها وتدويرها (واتربوري) ، وباستعمال فعلي لمناهجها ومفاهيمها ونتائج أبحاثها لكن بصمت وتواطؤ، ونفعية براغماتية وهيمنة أكيدة؛ وكثيرا ما لا تضطر حتى إلى الاعتراف بذلك، برعونة معينة، مما يقتضيه منطق الحكم، منطق الحاكم على المحكوم !

ولأن التهديد كاسح، يمس “لاوعي” الوجود الراسمالي في أسمى و أعقد  تنا قضا ته، بأكمله، ينفذ حد الحكم في العولمة الجارفة، يحدها، في ما يسرع بصيرورتها الموضوعية نحو الحائط: الشمولية واللإنسانية. قد تستبدل تلك الشمولية – الغربية بأخرى « شرقية » ، في ظل “الاستقطاب الكبير”، لكن يبدو أن الأمور ستسير في أفق، إلا أن تستكفي القوى المهيمنة – مرحليا وفقط – بالحفاظ على التوازنات المالية الكبرى، الدولية و”الأقطارية”.

 ولأن التهديد، الآن، يمس الأوطان، كل على حدة،  انكمشت القيم الإنسانية، إلا ما تدر، لتظهر للسطح أنانيات الدول و لتنتصر لحلول قطرية داخلية، مااستطاعت، في ظل أحلاف ضيقة وإطلالات على تشققات في المجموعات العابرة للأمم، داعية إلى تضامنات محدودة داخلية مباغتة وهجينة. هكذا، نعود لنتذكر أن الوطن “أوطان” ومراكز وهوامش، أن الإنسان “إنسانات”، حسب المجالات والطبقات والفئات العمرية، مما يجعل المقاومة “مقاومات” والصدمة “صدمات”؛ ويُرجع إلى النقاش التفاضل بين “منطق الدولة” و”منطق السوق” أو منطقها معا، بل وليعود الحوار إلى نقطة الصفر الأولى: أي نظام اقتصادي – اجتماعي قادر على الحفاظ على “النوع البشري”؟ كيف لوباء “غير عاقل” أن يهزم من الأساس، مثلا، أنظمة صحية” متقدمة، وصلت حد إطالة الأعمار وتحسين مستوى الرفاه واستباق العديد من الأمراض والتشوهات الخلقية المحتملة؟

 وكان لنفس الوباء أن يتشفى ويصيب الآلاف ممن نظامهم الصحي » نيولبرالي أرعن » أو، يسمح  بما تيسر من الأعشاب والتمائم والجهل المطبق والتفقير المذقع، وبالرغم من غلظ وانفلات بعض الميسرين لخطاب السلطة، ممن اكتشفت مواهبهم، على حين غرة، فقد جددت القوى الحية في البلاد – جمعيات وقوى سياسية واعدة – دعواتها للتضامن، بل ول »لامتثال » حتى، دون نقاش لمستلزمات المرحلة.

 ولعله ، عوض شيء من « الإقصاء » في حق قوى اجتماعية منافسة للسلطة المركزية ولتحالفها الطبقي-الأسلاموي الحاكم – ذو السلوك المتناقض والمتهافت، كان من الأجدر، لهاته الأخيرة، أن تعمل على إشراك وإدراج الأولى في لجن تدبير شأن كورونا العام، دون احتكاره. 

بل لوحظ عكس ذلك، إثقال الفرقاء الاجتماعيين بمشاركة “قسرية”، إلا من يريد ، في تدبير الأزمة الاقتصادية: اقتطاعات من العين، قروض دولية، (…)، ثم، لعل تلك المبادرات الحازمة – الواعية، وذلك الغرام المفاجئ والمتبادل “قهرأ”، من كلا الجانبين، مما تستدعيه الظرفية، لا غاية منه إلا النجاعة والآنية والفعالية، دون بعد نظر أو تبصر حقيقي، لصياغة اختيارات اجتماعية – سياسية جديدة ! وهل هناك من يريد أكثر؟  من يبحث عن القيم الطاوية وراء الإجراءات العملية اللحظية؟

 نعم! الحال، أن الأزمة فجائية ورعناء، لكن هل هناك ما يبرر “عنف الدولة”؟ هل هو “عنف استثنائي”؟ أي ضرورة – هاته التي قد تفرغ، أحيانا كثيرة، مثلا، “ميثاق حقوق الإنسان” من بعض محتواه؟! هل هي ضرورة عابرة أم، هي، قيم وسلوكات متأصلة في البنيان الثقافي والسياسي لبلدنا؟ ما الذي يبرر كل تلك التقنوقراطية المؤدبة والناعمة؟؟

 في جميع الحالات، لا نظن أن التعامل مع “أزمة كورورنا” يندرج ضمن سياسة وطنية راقية، مندمجة وإشراكية، واعية كل الوعي وناضجة، فاتحة “لعقد اجتماعي جديد”، وإنما، هي، بكل التباساتها وتناقضاتها، تعبر عن “الوجه الآخر” لدينامية النظام القائم، نفسه، شيمته في ذلك، الحرص الصارم والتام على ” توابث الأمة”! فأخدت امارة المؤمنين، مثلا، بعدا « عصريا » مفصليا، حاسما، فيما عمقها “نيوتقليداني”، لتدبير و”احتكار الشأن الديني والسياسي، حيث قامت ب »المرصاد » لكل المتأسلمين : خطباء مساجد(…)، بل وسمح للنظام تركيم التجربة والحنكة لإدارة الأزمات المباغتة – أطبيعية كانت أم اجتماعية– سياسية، ولاستحكام القبضة الناعمة على الرقاب والقلوب و”العقول” ، بل وسمح   للحس الشعبي أن يتململ، وأن يتخيل أنه من الممكن تنظيم المجتمع بطريقة أخرى، ولعل هذه طفرة مهمة على مستوى الوعي الو طني و الشعبي. 

 فهل ستعود “حليمة” لعادتها القديمة؟ لتتساهل مع “أنصاف-العلماء” و”أنصاف-المتعلمين” والتطبيع مع “الجهل المقدس” – أم أنها، لم تبرح حليمة تلك العادة، قطعا، حتى في وقت الشدة! فالأصل هو زواج الاستبداد والتسلط مع التستر والإشاعة للخرافة والفكر الغيبي، حتى تغشى ميكانزمات الاستغلال والقهر على الضعفاء والمرضى والعمال والمنتجين وكذا، أفراد المجتمع العميق والعتيق؟ وهو ما يجعل وظيفة الأنتلجنسيا واضحة: التصدي لنقد آليات “الطلسمة/ الهيمنة” الخفية وإستجلاء المعرفة العملية/ الحقيقة – العالمة و »الشعبية »، وكذا، المساهمة في تنظيم القوى الحية في البلاد من أجل التغيير التقدمي-الديمقراطي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد