الرائدة في صحافة الموبايل

حين تلتحم قوة الكلمة وصدق الأداء.. رشيد الشناني يغني رائعة أدونيس “مرآة لبيروت ” (فيديو )

الإعلامية والكاتبة نادية الصبار

غنى رشيد الشناني رائعة علي أحمد سعيد اسبر، الملقب بأدونيس ، اللقب الذي اختاره بمحض إرادته وأطلقه على نفسه ليكون كظله، فمنذ أن ادركت عيونه القارئة أسطورة “أدونيس” العاشق الوسيم ، الذي من الموت اللعين ، يولد وينبعث من جديد ، قرر أن يكون أدونيس .

شرع أدونيس منذ نعومة أنامله التي تكتب ، في ممارسة جرم التغيير والثورة على القالب القديم ، ليس من أجل الهدم ولكنه يبغي الحداثة والتغيير ، فلا غرو أن يصف ادونيس معاصريه بقولته الشهيرة “قد أضافوا إلى القديم قديما “، ولا غرابة في أن يلتقي البرزخان أدونيس والشناني .. فهو الآخر ثائر لا تابع ، يغرد خارج الأسراب التي على أشكالها وقعت في فخاخ السوق وإغرائه وموازين العرض والطلب ، فعلى مايبدو أن مقولة : ” ما يطلبه الجمهور ” ؛ ليست ذات معنى في قاموسه الفني ، لأنه فنان مسكون بالعطاء ، فنان يشتغل خارج السياق دون أن ينسلخ عن الواقع ، بل منغمس فيه حد القداسة والتبتل .

رشيد الشناني لا يغني لكي يغني ، ولا يغني ل”ليلاه” بل ل” أناه ” ، التي تتوجع وتتضور جوعى وعطشى لفن ساكن في الأحشاء ، تترجمه القيتاراة كلما أدركه الاستواء ، وبدأ في التسلل ليدعوه للعزف والغناء .

وإذ أجمع النقاد على صعوبة فك شفرة النص الأدونيسي لما ينتاب هذا النص من قلق مستدام ومتزامن لحالة الشاعر ، سواء الإبداعية أو السياسية ، فقد يصدق الأمر على الفنان الشناني .. وأنت تسمع موسيقاه ، قد يتراءى لك أنك تدرك كنهها وفحواها دون أن تتراءى ، فكلما أمسكت بشفرة ، تراءت لك شفرات أخرى ، فالقلق الذي رافق مسار أدونيس هو ذاته عند رشيد ، تجده دائم القلق ، يتوسد ركبتيه وكأنه بآخر الرصيف ، ينتظر قطارا نفاذا أو ناقلة عجيبة تأخذه إلى أبعد مكان ، ليختلي بأحرف منتقاة ، فيحيي أماسيها على تراتيل عوده الذي لا يعزف إلا أشجانا وآهات ، قلما صادفناه بلغة غير لغة الشجن … فكأنما أشجانه دافع نحو العطاء .

هذا العمل الذي غناه رشيد الشناني ؛ هو قصيدة “مرآة لبيروت ” ( 1967 )، للشاعر ادونيس والتي يقول مطلعها :
ألشّارعُ امرأهْ
تقرأ، حين تحزنُ ، الفاتحهْ
أو ترسُمُ الصّليبْ

يقول عنها رشيد ؛ في بوح جميل وخاص” أنه تجربة وموقف شخصي من مأسسة الدعارة في العالم العربي منذ الثمانينات على الشواطئ العربية : مصر ، لبنان ، المغرب ، تونس وبعض بلدان البحر الأبيض المتوسط .

فكان رشيد وهو الذي لا يتبع ،تابع للمتبوع أدونيس ، والمريد المخلص للشيخ ، يردد بعده التراتيل ..
واللّيلُ، تحتَ نهدها،
محدّبٌ غريبْ
عبّأ في كيسهِ
كِلابه الفضيّة النّائحهْ

حيث “السقوط الاجتماعي للدعارة والخرافة المغلفة بالدين والشرف والطهرانية والذكورية والاستبداد واستعباد المرأة الذي يدخل قانونيا اليوم في خانة الاتجار بالبشر” ، يقول الشناني .

” الشارع امرأة ” حورها و حولها من مجرد قصيدة تزدان بها رفوف المكتبات لعمل فني مائز غناه ، والذي ينهل فيه من الحضرة والجذبة ، فرشيد اشتغل على الأرتام المغربية ، فعلى حد قوله ف ” الأغنية مشاكسة لأنها تفضح واقعا متجذرا في اللاوعي الفردي والجماعي للشعوب ، واقع مسكوت عنه ، تابو آن له أن يكسر “.

ورشيد كسر التابو والمسكوت عنه بالغوص في أرتام وإيقاعات تراثية “كناوة ” ، “هداوة ” و ” الملحون “.. فبالرغم من أن العمل لا يتعدى زمانه المادي دقائق أربع ، لكنه كلف رشيد ثلاث سنوات من الاشتغال والبحث الميداني ، مستوحيا من المواسم جذبتها ومن المتصوفة حضرتها .

وفي محاولة عاشقة لفك الشفرات المعقدة التي ما أن أحسبني أمسكت ولو بواحدة منها ؛ حتى أجد الشفرات فكت لتتعقد وحلت عقدتها لتتجمع ، فأحسست أني أسمع للرواد في عمل واحد رائد ، يغنون لامرأة..
سقط في فراشها
الأيامُ والجرذانْ
ويسقط الإنسانْ..

سقط الإنسان وسقط الكلام .. أحسست بتجاذبات شتى وأحسست كأني من يسمع للمدارس المغربية المخضرمة ، فمرة ترآءى لي” عبد الهادي بلخياط ” ومرة “عبد الوهاب الدكالي” ، وتحسست فيها “محمد الحياني” ، لتراقصني كلمات أدونيس وتراتيل رشيد الشناني فتراودني عن نفسي حتى خلتني أمام “الإخوان ميكري “.

فبعد ان استمعت لشريط الأغنية التي ما إن انهيتها حتى صحت “يوريكا يوريكا” ،
أنها أمرأة والجَملُ النّائمُ حول صدرها
يغنّي
للنّفط (كلّ عابرٍ يغنّي)

ظننتني وجدتها ووجدت العابر و الجمل النائم ، فأخبرت رشيد بأنه ينهل من المدرسة الميكرية .. فأجابني وهو الذي لا يخجل من أن يعبر عن رأيه مهما كان فظا : “لا ، ليس كذلك ، فاشتغال آل ميكري على الفصحى ظل سطحيا ، وناس الغيوان كذلك ؛ لم يقوموا بهكذا اشتغال على الشعر الحديث لما بعد 1967”.

لعله وهذه وجهة نظري ، فيها ما يؤخذ وما يرد ، أن رشيد الشناني أول من اشتغل على الفصيح بشكل رصين وبدقة متناهية ، وهذا ما كلفه المزيد من العزلة ، فرشيد منزو معظم أوقاته بمحرابه ممسكا عوده ليبدع ويرسم مجتمعا في أنينه يموت .. وفي أنين نجمةٍ أو أمةٍ تموتْ
يضطجع الرّجالُ والأطفال والنساءْ
بلا سراويلَ
ولا أغطية …

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد