الرائدة في صحافة الموبايل

يونس مسكين.. سليمان الريسوني كما عرفته

يونس مسكين مدير نشر اليوم 24

في يوم صيفي قائظ من أواخر شهر يوليوز عام 2016، جمعني أول لقاء بزميلي سليمان الريسوني الذي قضى يوم عيد الفطر الأخير بين زنزانة وتحقيق وتفتيش منزلي. لم يكن المكان سوى مطار «المسيرة» بمدينة أكادير، فقد كانت الطائرة نفسها قد أقلتنا من مطار محمد الخامس، دون أن ينتبه أحدنا إلى الآخر. بعد مغادرة المطار، وجدنا نفسينا نقف جنبا إلى جنب، ليتعرّف كل منا على الآخر من خلال معرفة كل منا المسبقة بالآخر من خلال الصور.

سلّمنا على بعضنا البعض، واكتشفنا أننا ننتظر الشخص نفسه لينقلنا إلى مكان تنظيم الندوة السياسية نفسها التي دعينا إلى المشاركة فيها. بمحفظته التي لا تفارق كتفه ولكنته الشمالية وتعطشه الدائم إلى النقاش السياسي، تعرّفت عليه عن قرب ونحن في طريقنا إلى مكان انعقاد الندوة. لا أذكر بعد تلك الواقعة أن لقاءات أو اتصالات كثيرة جمعتني بسليمان الريسوني، باستثناء مرة أعتقد أنه طلب مني فيها رقما هاتفيا لإحدى الشخصيات التي كنت قد حاورتها.

بعد حوالي عام ونصف، اعتُقل زميلنا ومؤسس جريدة «أخبار اليوم»، توفيق بوعشرين، بالطريقة والتفاصيل التي يعلمها الجميع. بين مداهمة وتحقيق وتقديم ومحاكمة، وجد هذا العبد الضعيف نفسه مدعوا إلى تحمّل مسؤولية إدارة نشر هذه الجريدة، في وقت كان الاعتقاد السائد، والأقرب إلى اليقين، هو أن لحظة إعدام «أخبار اليوم» باتت مسألة أسابيع، إن لم تكن أياما.

بين لحظة «الدوخة» التي أصابتنا جميعا إثر التغييب المفاجئ لمؤسس ومالك ومدير الجريدة، والشروع في تقبّل فكرة أن الأمر لا يتعلّق بمرحلة عابرة بل بوضع سيطول أمده، كان من بين أول ما فكّرنا فيه هو محاولة تعزيز «مطبخ» الجريدة بعد الهزة التي ضربته، وتوفير الحد الأدنى من الأعين المهنية التي تتولى مهمة فلترة ومراجعة وتنقيح المواضيع والمواد… فكان من بين الأسماء التي طُرحت اسم سليمان الريسوني، خاصة أنه كان أحد كتاب أعمدة الرأي في الجريدة، وبالتالي، فهو ليس غريبا عن أسرتها وخطها التحريري.

تولى بعض الزملاء مهمة مفاتحة سليمان بهذا الخصوص، وبعد فترة من التفكير والتردد من جانبه، اتفقنا على أن يكون التحاقه مؤقتا ومرتبطا بالمساعدة في تدبير مرحلة الاضطراب الداخلي الذي عاشته المؤسسة. قدّم بعض الذين قبلوا لعب دور المعول في يد من يحاولون هدم هذه المؤسسة التحاق سليمان الريسوني بالجريدة كنوع من «السطو»، وربطوا ذلك بموقفه المبدئي والصريح من اعتقال وتغييب زميلنا توفيق بوعشرين، فيما الحقيقة أن سليمان التحق بصفوفنا مكلفا بالدرجة الأولى بمهمة الإشراف على قسم الحوارات والتحقيقات الكبرى، ارتأينا وقتها أنه أفضل ما ينبغي علينا تقديمه للقارئ، تعويضا له عن افتتاحية بوعشرين التحليلية.

بمرور الوقت، وجدنا جميعا أنفسنا في معركة لا تهدأ إلا لتتجدد، وعبر جبهات مختلفة، ما جعل موارد وقدرات الجريدة تتراجع، واضطرنا إلى تقاسم أعباء مسؤولية التحرير بالشكل الذي يضمن السير العادي للجريدة دون تحميلها أعباء مادية جديدة، ليجد سليمان نفسه مضطرا إلى المكوث إلى جانبي في مهمة تنسيق المسؤوليات التحريرية، وتحوّل المؤقت إلى دائم، لنقترح عليه بشكل رسمي تولي مهمة رئاسة التحرير، مادام يؤدي جزءا كبيرا منها، وكذلك كان.

منذ أيامه الأولى ضمن أسرة «أخبار اليوم»، أواسط العام 2018، علمنا أن الأمر يتعلّق بصحافي مستهدف بشكل دائم ومستمر. كان هو نفسه يؤكد مرارا أنه مهدد بالاعتقال، وأن المتضايقين من آرائه وكتاباته ينوون سلك درب التهم الجنسية معه. انتهينا جميعا داخل «أخبار اليوم» إلى تجاهل التهديدات و«التطبيع» معها، بسبب توالي محاولات الإضعاف والتشويه والوصم والتحريض، والتي مورست ضدنا بجميع الوسائل. قرّرنا، عن وعي أو تحت الضغط، عدم الالتفات إلى كل ذلك والتركيز على القيام بمهمتنا الأصلية، وهي الإخبار والتعليق بكل ما نستطيع من مهنية وتوازن وتنوّع، وترك الحكم للقارئ والرأي العام والتاريخ.

يتهم بعض الذين يسترخصون أنفسهم ويحنشون الأكاذيب تحت الطلب، سليمان الريسوني بالالتحاق بـ«جريدة بوعشرين» للدفاع عن قضيته مقابل المال، لكنّهم لم يحضروا لحظة واحدة من تلك اللحظات التي كان يمرّ علي فيها صباحا لنناقش آخر المستجدات وما يتطلبه العدد من تخطيط وتكليفات، ونعرّج على موضوع زميلنا المعتقل، توفيق بوعشرين، فيفاجئني بانهمار دموعه حين يتعلّق الأمر بلحظة انسداد في الأفق وغياب الأمل.

وأنا أحاول إدارة دفة هذه الجريدة فوق أمواج متلاطمة، وجدت في سليمان الريسوني السند والمعين، يطمئن عند الوجل، ويحفّز عند اليأس، ويمسك بخيط الأمل والاستمرار حين يوشك اليأس على التطويح بي من فوق السفينة، ويمنعني من الانفجار في لحظات الغضب. قبل أن ينتهي صيف السنة الماضية، تلقّينا ضربة الاعتقال الغريب لزميلتنا هاجر الريسوني، وكم كان حجم الشعور بالذنب كبيرا فوق كتفي عمّها وزميلها سليمان. تحرّكت آلة التشويه والتضليل والإعدام الرمزي ضد الصحافية وأسرتها وزملائها، وفي الوقت الذي سارع هذا الوحش، الآخذ في التهام الأبرياء تباعا، إلى اتهام سليمان باقتياد هذه الجريدة إلى مناصرة ابنة أخيه، لا يمكنني اليوم أن أخفي اليوم شهادة أن الرجل وهو يعلم باعتقال زميلتنا لم يخبرني كما لم يخبر أحدا داخل الجريدة، لأكتشف الأمر عبر مصدر آخر. وطيلة ثلاثة أيام من التزامنا الصمت في انتظار معرفة قرار المتابعة من عدمه، لم ينبس الرجل ببنت شفة، وحتى قرار خروجنا بالموقف الذي تمليه علينا أخلاقيات مهنتنا، لم يكن له فيه يد ولا أصبع، إلا بقدر ما خطّه من رأي في مقالاته الموقعة باسمه، متخذا مسافة من قاعة التحرير بعد حصوله على عطلة.

لم تمض سوى فترة قصيرة بعد صدور العفو الملكي الذي صحّح فضيحة اعتقال ومحاكمة زميلتنا هاجر الريسوني بتلك الطريقة التي تابع فصولها العالم، حتى أطلعني سليمان الريسوني على قراره الترجل عن سفينة «أخبار اليوم». لم يخبرني يوما بسبب هذا القرار، فقد كانت تخميناتي تغني عن ذلك، وبقيت هذه الرغبة مبررة بـ«أسباب شخصية»، ومعلقة بقرار مني. وكم جعل ذلك إحساسي بالذنب كبيرا أول أمس، وأنا أرى زميلي يقضي يوم عيد الفطر الأول في حياة رضيعه مغيبا خلف القضبان.

كانت رغبة سليمان الريسوني أن يغادر «أخبار اليوم» مع متم العام 2019، فطلبت منه شخصيا البقاء بعض الوقت، محاولا تجنيب السفينة هزّة معنوية سوف لن يفلتها خصوم الجريدة لبث المزيد من الشكوك والمخاوف بين ركابها. كان يعرف أنني أرغب في استعادة بعض الثقة والتوازن، خاصة مع مجيء موعد الدعم العمومي الذي صودر منا طيلة أربعة أشهر، وحال دون تغطية الحقوق الاجتماعية للعاملين في المؤسسة، كي يغادر في إطار إعادة هيكلة داخلية للمؤسسة لا تؤثر في سيرها العادي.

اتفقنا في نهاية الأمر على نهاية مارس موعدا أخيرا قبل «إطلاق سراحه» ليغادر الجريدة، لكن شاء القدر أن يأتي الوباء ويمكث كل منا في بيته في انتظار زواله. «نحن الآن في حجر وليس لديك ما تفعله إن غادرتنا، انتظر إلى أن ينتهي هذا الوضع»، قلت له في دردشة أخيرة حول الموضوع أواخر شهر مارس، وليتني لم أفعل.

من أوسخ ما قرأته، ضمن ما اقترفته أيادي السوء في حق زميلنا، اتهامه بصرف أموال الدعم العمومي، الذي لم تفرج عنه الحكومة لصالحنا إلا بعد عذاب أليم، في ما يريدون إقناع الرأي العام بوجوده في حياته الخاصة. فالأقلام المأجورة لم تكن معنا قبل بضعة أشهر، ونحن نناقش سبل الخروج من لحظة ضيق شديد، وصلت فيه متأخرات الأجور إلى شهرين متتابعين، وفي الوقت الذي كنا نناقش فيه منافذ الاقتراض الممكنة، أنهى سليمان حديثنا باقتراحه سحب مبلغ 100 ألف درهم يتوفر عليه في حسابه الشخصي، ودفعه في حساب الجريدة، حتى يكتمل مبلغ نصف الأجور الذي كنا نصرفه كلما توفر لنا درءا لطول انتظار العاملين لأجورهم.

قبلنا المقترح على مضض، ومنح سليمان ماله الخاص لمساعدة المؤسسة، على أن يسترجعه بعد حصول الجريدة على دعمها السنوي، وانصرف إلى عمله منذ ذلك اليوم، لا هو طلب اعترافا بدين ولا استردادا سريعا لحقه المادي. كنا نعلّق جميعا آمال سداد مثل هذه الديون على صرف حصتنا القانونية من الدعم العمومي، وكم ظلمت زميلي، مرة أخرى، وأنا أدرجه ضمن قراراتي المؤلمة بتأخير صرف بعض المستحقات، مفضلا تسوية متأخرات الضمان الاجتماعي وأجور العاملين في المؤسسة منعا لأي انكسار جديد في النفوس والمعنويات. تجاهلت إلحاح من شهدوا واقعة مساهمة سليمان الشخصية بماله الخاص على تمكينه من حقه أولا، وأعفيت نفسي من تأنيب الضمير باستشارته في الأمر، فلم يزد على أن قال: «اتركني أنا إلى النهاية».

المصدر اليوم 24 بتاريخ 27 ماي 2020

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد