الرائدة في صحافة الموبايل

قصة الرجل الذي أقنع الملك الحسن الثاني بالعفو عن ابنه المعتقل السياسي..

عبد الله لعماري، محامي بهيئة الدارالبيضاء عضو الامانة العامة حزب النهضة والفضيلة


صبيحة اليوم ثامن وعشري ماي 2020، سكن نبض قلب الرجل الشريف الكريم الحاج جعفر الإدريسي الودغيري، والد أخينا ورفيقنا في سجون الإعتقال السياسي الإسلامي سنوات الثمانينات، حسين الودغيري، الرجل الذي كان حاضرا على الدوام في طليعة آباء وأمهات المعتقلين السياسيين، الذين كانت قلوبهم تحترق وتنبض على إيقاع محننا في السجون.

كان الحاج جعفر رحمه الله وحرمه والدة أخينا في الخط الأول من دعم المعتقلين السياسيين، بالإسناد التمويني وشد الرحال إلى السجون وتجشم مشاق الأسفار التي كانت تبتدئ في عتمة ماقبل الفجر وتنتهي في ظلمة الليل، فكان يسخر إنفاقا، ماوسعه الله عليه من يسر الحال، في إدخال الفرحة على رفاق إبنه.

وللحاج جعفر رحمه الله، مع محنة الإعتقال السياسي، قصة تاريخية، ستظل تمشي بحكيها الركبان، وستظل مسطرة بمداد من ذهب في سجلات تاريخ البلاد ليس الشعبي منه والنضالي فحسب، بل وفي التاريخ الرسمي في وقائع الدولة المغربية وآثار الملك الحسن الثاني.

فقد كان الحاج جعفر وهو رجل أعمال ناجح، ينغمس في هدأة حياة ناعمة مستقرة، لاتشوبها شائبة، يدرس أبناؤه في مدارس راقية تختزن الآفاق البراقة لروادها، وكان إبنه حسين ، وقد وفر له والده كل الترف الذي يحتاجه ويزيد، ينتظم في إحدى هذه المدارس طالبا لدبلوم مهندس دولة، حتى سقطت صخرة القدر فجأة على صفحة هدأة تلك الحياة الناعمة.

صعق الحاج جعفر ليلة 24 يناير 1984، وهو يرى الملك الحسن الثاني يخطب في الشعب غاضبا متوعدا وملوحا بأوراق يعرضها على الأنظار، كانت المناسبة هي اندلاع أحداث يناير سنتئذ، وكانت الأوراق في سياق تلك الأحداث وكان الخطاب الأعصف في تاريخ الخطابات الملكية.

صعق الحاج لماعلم أن إبنه وأخانا حسين الطالب المهندس، كان في صلب نازلة تلك الأوراق، وفي غمرة طائلة ذلك الغضب والوعيد، ووجد المرحوم الحاج جعفر نفسه بعد ذلك الحدث، يغشى عالما آخر لم يكن له في الحسبان ولاقبل له به، قد قلب حياته رأسا على عقب، عالما إكتشف فيه مغرب معتقل درب مولاي شريف ومارطون جلسات المحاكمات السياسية، ومارطون التنقل في الرحلات المكوكية بين السجون، والمرابطة الجماعية لعائلات المعتقلين السياسيين، أمام أبواب وزارة العدل ووزارة الداخلية والإدارة العامة العامة للسجون ومقر الوزارة الأولى والديوان الملكي، والارتياد الجماعي لمقار الجمعيات الحقوقية ومقار الجرائد الوطنية والأحزاب السياسية.

ولم يعد للحاج جعفر من هم يشغل فكره وحياته سوى أن تنتهي محنة إبنه ورفاقه بالإفراج، وسلك لأجل هذه الغاية، كل سبيل بدا له سالكا وموصلا، وطرق كل باب يتوسل منه بارقة أمل، ولم يعيى ولم ينثني أن يمضي إلى نهاية النفق، لقد تحول المرحوم الحاج جعفر وهو يخوض هذه المعركة إلى صاحب إرادة صلبة قدت من الصخر الجلمود، وإلى مالك للإيمان القوي بالله وبفرجه،لا يعرف معه يأسا ولاقنوطا من رحمة الله.

وكيف له أن تلين له قناة، أو يتسرب له اليأس من فرج الله، وهو الذي أمضى تجربة قاسية في حياته قبل هذه المحنة، تعلم فيها أن الصبر والمكابدة طريق الفرج، وأن العزم والإصرار محقق الأمنيات، ذلك أنه كانت قد مرضت له زوجته أم حسين، والأبناء أنذاك أطفال صغار، وكان المرض شديدا وقاسيا، ألزمها الفراش وأقعدها عن الحركة سنوات ثقيلة، ولم يترك في التطواف بها من أجل شفاءها طبيبا ولا مستشفى، ولا فقيها ولا راقيا، وكان هو الخادم في البيت لأبناءه، والممرض والساهر على زوجته بشكل أسطوري، ويئس القريب والبعيد من شفاءها، ولكنه لم ييأس ولم يتخل عنها إلى بديلة لها وهو في عز شبابه، ولم يقطع رجاءه إلى الله في شفاءها ، إلى أن حصلت المعجزة الربانية، عندما حملها معه إلى الحرم المكي، إلى كعبة الله المشرفة، مستجيرا بها الله العظيم جلت قدرته، عند بيته الحرام، فانتفضت المريضة من مرضها في فضاء الصحن المبارك، وفكت من عقالها، وكٱنها لم تكن قط قعيدة ولا عاجرة ولا مريضة، وعاد بها إلى الديار موفورة الصحة والعافية والشباب.

وبنفس التصميم والثقة في موعود الله، سعى الحاج جعفر إلى الهدف المرسوم، الإفراج عن حسين ورفاقه، وإهتدى في عناء البحث إلى الوسيلة المفضية إلى الملك الحسن الثاني، عندما وجه له عريضة بطلب الإفراج والعفو، بواسطة عميد العلماء المرحوم عبدالله كنون الذي وقع العريضة، ووقعها معه كبار علماء المغرب، وتسلم الملك العريضة المتضمنة للملتمس، وأخذت مكانها في انتظار النظر والقرار الملكي.

وتحققت الأمنية في الأخير، ففي ليلة وفاة العالم عبدالله كنون، طلب الحسن الثاني الرسالة العريضة، ولمكانة الرجل عنده والعلماء الموقعين، أصدر أمره بتنفيد ملتمس العالم الراحل، وذلك بالعفو الشامل عن ٱخينا حسين الإدريسي الودغيري والإفراج عنه من سجن اغبيلة بالدارالبيضاء.

وهكذا جاء الإفراج إستثنائيا وفرديا وبدون مناسبة دينية أو وطنية، إذ بينما كنا نتجول صباحا في ساحة السجن، سمعنا المناداة على أخينا حسين، فاعتقدنا أنه من قبيل المناداة على الزيارة العائلية، لكن دهشتنا كانت عظيمة وفرحتنا كانت عارمة عندما سمعنا المدير يقول له: اجمع حوايجك، إفراج.

كان هذا الحدث بعد خمس سنوات من إعتقال حسين سنة 1984، وقبل خمس سنوات على الإفراج العام عن المعتقلين السياسيين سنة 1994.

رحم الله الحاج جعفر الودغيري وأسكنه الردوس الأعلى، الرجل الصبور المحتسب المؤمن دوما بموعود الله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد