الرائدة في صحافة الموبايل

الجندر/النوع الاجتماعي.. بين التنشأة، الجنوسة والبيولوجيا

بقلم رقية لكبير

برز مفهوم الجندر أو النوع الاجتماعي بصورة واضحة في بداية السبعينات من القرن الماضي و من أوائل من حدد مفهوم النوع من وجهة نظر سوسيولوجية نسائية هي آن اوكلي التي ميزت بين الجنس و النوع ، فكلمة الجنس تحيل على الفوارق البيولوجية بين الذكور والإناث ، و إلى الفوارق الظاهرة بين الاعضاء الجنسية، و كذا إلى الفوارق في ارتباطها بالوظيفة الفيزيولوجية و الانجاب . أما النوع فهو معطى ثقافي يحيل على التصنيف الاجتماعي مذكر/مؤنث ، و تخلص اوكلي إلى القول بأن النوع الاجتماعي هو بمثابة الجنس الاجتماعي ¹ ، في هذا السياق نجد Antoinette Fouque التي اعتبرت أن مفهوم النوع الاجتماعي يعني مميزات الرجل و المرأة و هي مميزات تتصل بعلاقتهما الاجتماعية تحت تأثير عوامل اقتصادية و ثقافية و أيديولوجية تحدد ادورهما ، و ناقشت أيضا مسألة المساواة بين الجنسين في السياسات العامة الحكومية و غير الحكومية ، إذن إن الفروقات في الجنوسة أو بين الأنواع الاجتماعية ليس من الضروري نابع من الفروقات البيولوجية بين الذكر و الانثى إنما هي فروقات مترجمة عن نظرة المجتمع و الحضاره للنوع الاجتماعي بشكل أساسي و على التوقعات التي يبنيها المجتمع نفسه من النوع الاجتماعي الآنف ذكره . اي ان نظرة المجتمع و التوقعات الجندرية فيه هي التي تبني و تصمم مراحل تطور الذكر كرجل و الانثى كامرأة و هي نفسها التي تصمم الطبقية والمجتمعية القائمة على تفوق لصالح الرجل عن المرأة ، نظرا لإرتباط الفوارق الجنوسية ارتباطا وثيقا بالمسائل المتعلقة بالتفاوت و عدم المساواة و القوة في المجتمع فإن هذه القضية تستحوذ على اهتمام كثير من علماء الاجتماع . يضاف إلى ذلك أن التغيرات التي أحدثتها الحركات النسائية خلال العقود القليلة الماضية قد أدت إلى الاعتقاد لدى الكثيرين بأن أنماط التفاوت و اللامساواة الجنوسية إنما يجري إنتاجها و تعزيز وجودها بل و تحويلها من جانب المجتمع . و قد غادت الدراسات المتخصصة بشؤون الجنوسة و السلوك الجنسي من الموضوعات التي يكثر الإقبال عليها في العلوم الاجتماعية الحديثة ².

التنشئة الاجتماعية و الجنوسة:

ماذا يعني أن يكون الإنسان رجلا ؟ و ماذا يعني أن يكون امرأة ؟ قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أن يكون الإنسان رجلا أو امرأة أمر مرتبط بجنس الخصائص البيولوجية الجسدية التي ولدنا بها بمعنى أنه يتعلق بالتميز الجنسي بين الجنسين اي من خلال الوصف التشريحي . غير أنه في منظور علم الجنس السوسيولوجي أمر مختلف فالمرء يولد كائنا بيولوجيا و النظم و الأنساق الاجتماعية و الثقافية هي من تحوله إلى ماهي او هو عليه ، اي انه يولد ذكر أو أنثى ، و التنشئة الاجتماعية و التربية هي التي تحوله إلى إمرأة أو رجل ،  إن تصورنا عن الهوية الجنوسية، بل و عن الاتجاهات و التمثلات و التصورات و التفاعلات و العلاقات و الميولات الجنسية تشكل جانبا أساسيا من شخصيتنا تبلور في مرحلة مبكرة جدا من حياتنا و أصبح راسخا في أعماق نفوسنا طيلة العمر ، فالجنوسة أو النوع الاجتماعي ليس أمرا مقدرا مند اللحظة التي نتكون فيها قبل تسعة أشهر من ولادتنا بل إنها أمر نسهم نحن في صنعه و تنميته خلال حياتنا اليومية عبر تفاعلنا الاجتماعي مع الآخرين فمن الوجهة الاجتماعية ننتج و نعيد إنتاج الجنوسة من خلال آلاف من الأفعال و الممارسات في الحياة اليومية³ ، إن طرحنا لهذه المسألة و بهذه الكيفية يحيلنا مباشرةً إلى إشكال جوهري لابد لنا أن نستحضره و هو نفس الإشكال الذي طرحته سيمون دي بوفوار في كتابها الشهير “الجنس الآخر”  حيث قالت « ليس بوسع البيولوجيا الإجابة على السؤال الذي يشغل بالنا : لمذا تكون المرأة الجنس الاخر؟ ينبغي لنا أن نعرف ما فعلته الإنسانية بالأنثى البشرية»⁴ ، في نفس السياق عند دي بوفوار ترى أنه لا يمكن لأي حدث بيولوجي أو نفسي أو اقتصادي أن ينفرد بتحديد الشكل الذي ستتخده الانثى البشرية في قلب المجتمع، لكن مجموعة الظروف الحضارية هي التي تكون هذا المنتوج المتوسط بين الذكر و الخصي ، الذي نسبغ عليه صفة الأنوثة عند المرأة⁵.

الجنوسة و البيولوجيا:

لكن رغم هذا التوجه فإن هذه المسألة تطرح نقاشات مغايرة فهناك اختلاف العلماء فيما بينهم حول الدرجة التي تتحكم فيها الخصائص البيولوجية التي نولد بها على شخصيتنا الجنوسية و أنشطتنا الجنسية بصورة قاطعة مطلقة و دائمة⁶ ، و في هذا الصدد تتحدث ميليسا هاينز في كتابها جنوسة الدماغ عن «فروق جنوسية gender differences» و «فرق جنسي» ،بحيث تعد فروق الجنوسة محددة اجتماعيا، في حين تقوم الفروق الجنسية على أسس بيولوجية، و تقول «أنه نظرا إلى محدودية معرفتنا بماهو محدد إجتماعيا أو بيولوجيا ؛ فإني اعتقد استحالة مثل هذا التمييز »⁷ . و تعتبر أن  الفروق السلوكية و الجنسية هي نتاج تفاعلات معقدة بين عدد من المؤثرات المتباينة ، يعتبر بعضها بيولوجيا و البعض الاخر اجتماعيا ، لكنها تستنج أخيرا أن التمييز بين المؤثرات البيولوجية و الاجتماعية هو أمر زائف نوعا ما، و تقول في هذا السياق « كل سلوكنا محكوم من قبل أدمغتنا ، و بهذا المعنى هو ذو أساس بيولوجي »⁸ ، يتضح اذن أن أصحاب هذا التوجه يعتبرون أن التكوين الجسمي البيولوجي للإنسان مثل ( الهرمونات و الكروموزومات و حجم الدماغ و المؤثرات الجينية هي المسؤولة عن فروق فطرية في سلوك الرجال والنساء⁹. حيث يعتبرون أصحاب هذا الرأي أنه يمكن ملاحظة هذه الاختلافات في مختلف الثقافات مما يعني أنه ثمة عوامل طبيعية تؤدي إلى اللامساواة بين الجنسين في جميع المجتمعات تقريبا  ، هكذا يتضح أن الدارسين في هذا السياق يعتبرون أن الفروق بين الرجال والنساء محدد جينيا ، لكن هذا التوجه يواجه الكثير من النقد ، ذلك أن النظريات القائمة على الاختلافات الطبيعية كثيرا ما تعتمد على البيانات التي تتوافر عن السلوك الحيواني -مثل التفوق في النزعة العدوانية- ؛ لا على البيانات الانثروبولوجية أو التاريخية عن السلوك الإنساني ، يضيف النقاد لهذه النظريات أن شيوع صفة ما في جميع المجتمعات لا يعني أنها بيولوجيا في أصولها، حيث أنها قد تنتج عن عوامل ثقافية متماثلة في تلك المجتمعات أو انشاءات اجتماعية متشابهة ، *على سبيل الختم* يمكن القول بأن وضعيات الرجال والنساء في المجتمع ليست نتاج بيولوجي أو لها علاقة بالفروق الطبيعية و إنما هي عبارة عن انشاءات اجتماعية لها علاقة بالأساس بالتنشئة الاجتماعية و العوامل الثقافية ، فيمكن أن نشير في هذا السياق إلى الحديث عن التقسيم الجنسي للعمل أو التقسيم الاجتماعي للعمل بين الجنسين هذا التقسيم الذي يتضح انه لا يترجم التكامل بين المهام بقدر ما يترجم السلطة التي تمارس على النساء و كل انواع القهر و الإقصاء و التهميش الذي تعانيه المرأة داخل المجتمع ، حيث أنه يتضمن نوع من الأولوية بين الرجال و دائرة الإنتاج ، بينما يحصر النساء في دائرة إعادة الإنتاج . هذا يتضح من خلال مبدأي هذا التقسيم ؛ مبدأ الفصل  حيث هناك أعمال خاصة بالرجال و أخرى خاصة بالنساء ، و مبدأ التراتبية فنجد أن أعمال الرجال لها قيمة أكثر من أعمال النساء ، هذه المفارقة التي تبدو في أغلبية المجتمعات إلى درجة يبدو فيها هذين المبدأين أمر طبيعي وا صالح لكل المجتمعات هذه الأيديولوجيا التي تحيل إلى أن الأمر بديهي ، نجد أن الواقع التاريخي و الأبحاث الانثروبولوجية تثبت العكس و توضح أن التقسيم الجنسي للعمل ليس ثابتاً أو جامداً أو طبيعياً ، هذا لأن تقسيم العمل بين الجنسين يتغير تبعا للتغير الزمان و المكان ، الوقائع التاريخية و الدراسات الانثروبولوجية تظهر ذلك و تعر لنا الواقع فمثلا المهام التي تعتبر أنثوية في مجتمع ما يمكن أن تعتبر ذكورية في مجتمع آخر و يمكن الإشارة بالأعمال الرائدة ل *مارغريت ميد* و من أهم ابحاث ميد في هذا المجال هو ذلك الذي قادها إلى أوقيانوسيا حيث تعرفت على ثلاث مجتمعات في غينيا الجديدة هي مجتمع الأرابش و مجتمع الموندوغومور و مجتمع الشامبويلي { ميد 1935 } و من خلال هذه الحالات الثلاث بينت أن الشخصيتين المذكرة و المؤنثة اللتين نظن أنهما موجودتان في العالم كله و أنهما ميزتان بيولوجيتان ، لا وجود لهما كما نتصورهما في المجتمعات كلها ، فبعض المجتمعات تتمتع بمنظومة تربوية واجتماعية وثقافية لا تهتم بمقابلة الصبيان بالبنات على مستوى الشخصية ، فعند الارابش يبدو كل شيء منظما مند الطفولة الاولى حيث يربى كل من الرجل و المرأة على أن يكونا لطيفين و حساسين و محبين لخدمة الآخرين ، فهذا المجتمع يدلل الطفل دون تمييز بين الجنسين . بينما عند الموندوغومور فإن نتيجة المنظومة التربوية و التنشئة الاجتماعية تؤدي إلى التنافس و الصراع و العدوانية سواء بين الرجال أو بين النساء أو بين الجنسين ، فهذا المجتمع يربي أطفاله بطريقة قاسية ، يتضح أن هذين المجتمعان ينتجان من خلال منهجهما الثقافي نموذجين متناقضين من الشخصية في الجنوسة ، لكنهما يشتركان في نقطة واحدة ، و هي أنهما لا بميزان بين علم النفس الأنثوي و علم النفس الذكري ، فالبنسبة للأرابش يبدون ذكرا ام انثى يتمتعون بشخصية أنثوية ، أما الموندوغوموريون فيتمتعون بشخصية ذكورية .أما المجتمع الثالث الشامبوليين فيفكرون مثلنا أي أن الرجال والنساء يختلفون ، لكن هذا المجتمع يختلف عنا في قناعتهم حول أن المرأة بطبيعتها هي صاحبة المبادرة و الديناميكية بمعنى أنها تتميز بالقوة و السلطة ، بينما الرجل فهو حساس و أقل ثقة في نفسه يهتم كثيرا بالمظهره الخارجي. و السبب هو أن الشعب الشامبولي يرى أن النساء هن من يمسك بالسلطة الاقتصادية و تأمين الأساسيات لحياة الجماعة ، بينما يتوجه الرجال أساسا إلى النشاطات الاحتفالية و الجمالية التي غالبا ما تضعهم في وضعية منافسة .و بالتالي ترى ميد أن سمات الشخصية التي نصفها بالذكورة و الأنوثة تحدد بالجنس و الطريقة السطحية كالملابس و اشكال التصرف و قصة الشعر التي تفرض على هذا الجنس او ذاك ، هكذا يتضح أنه لا يمكن تفسير الشخصية الفردية بخواصها البيولوجية بل بالنموذج الثقافي الخاص بالمجتمع الذي يحدد تربية الطفل مند اللحظات الأولى ،حيث أن سؤال هل يختلف الرجال والنساء فعلا ؟ يطرح  مستويات عديدة يسهل الخلط بينها لكن البحوث الانثروبولوجية و السوسيولوجية التي أجرتها مارغريت ميد تشير إلى أن الجنوسة بنية ثقافية.

*المراجع:*

1 : آن اوكلي “الجنس ،النوع ،المجتمع”1978

2 : انتوني غدنز “علم الاجتماع” ترجمة و تقديم:الدكتور فايز الصياغ، الطبعة الرابعة ،2005 ، ص 186

3 : أنتوني غدنز نفس المرجع، ص 185

4 : سيمون دي بوفوار “الجنس الاخر” ص 21

5 : سيمون دي بوفوار ،نفس المرجع،  ص 20

6 : أنتوني غدنز ،نفس المرجع، ص 186

يتبع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد