الرائدة في صحافة الموبايل

فقهاء المغرب… والتقدم إلى الوراء

عبد الله الجباري

في الوقت الذي ننتظر من فقهاء المغرب أن يقتحموا عقبة الاجتهاد، وأن يبلوروا أفكارا تجديدية، وآراء اجتهادية إصلاحية، صرنا نرى ونلمس إصرار ثلة منهم في المضي بثبات نحو الوراء، نحو التعصب والتقليد المزري، والتمسك بأقوال السابقين، وكأن أقوالهم دستور سرمدي لا تنتهي صلاحيته ولو تغيرت الظروف والأحوال.

وإذا تجاوزنا هذا الميسم “العلمي”، فإننا نجد عند كثير منهم ممارسات متعددة، لا معنى لها سوى الإسهام العملي في ترسيخ التخلف والتقهقر المجتمعي، منها “تفرغ” بعضهم للتدخل الفوري قصد إنجاح فلان في مباراة هنا، أو تنجيح الآخر في مباراة هناك، ومنهم من تفنن في تثبيت دعائم التخلف، فرضي لنفسه أن يكون عضوا في لجنة إنجاح زوجته وأختها في مباراة ولوج في موقع جامعي، مع أن القانون يحول دون ذلك بتسجيل حالة التنافي، والفقه يحول دون ذلك لجرح شهادة الزوج في كفاءة زوجته، والمروءة تحول دون ذلك، لأنه من غير السائغ أن يشارك الرجل زوجته الفراش ليلا، ثم تمثل أمامه صباحا لاجتياز المباراة، مع العلم أن هذا “العالم” من “كبار” فقهاء المغرب، المشهود له بالمكنة في الفقه المالكي، ولعله درس المذهب المالكي دون أن يقرأ مباحث سد الذرائع.

إن إمعان الفقهاء في ترسيخ مبادئ “التقدم إلى الخلف” تنظيرا وممارسة، يجعل كثيرا من المتتبعين يصنفون جملة من الفقهاء ضمن عوامل تخلف المجتمع، ومن معرقلي التقدم المفروض. وهذا وإن كان لا يرضينا ولا نتبناه، إلا أنه واقع ملموس، وله حظ من الصواب في مناحي متعددة، لا يمكن حجبها بالغربال، ولا يمكن التغاضي عنها، بل إن النضال ضد ممارسات بعض “الفقهاء” لا يقل أهمية عن النضال ضد مظاهر التخلف المتعددة.

وهذه الممارسات المشينة لا نعممها على سائر فقهائنا، لأن منهم الأخيار الأطهار، وإن أذكر في هذا المقام، فلن أنسى أساتذة أو خريجي دار الحديث الحسنية، الذين يفخر بهم المغرب، مثل الفقيه أحمد بن تاويت التطواني، والمحدث إبراهيم بن الصديق، والفقيه محمد الحبيب التجكاني، والفقيه محمد الأزرق، والفقيه محمد اليزيدي، والدكتور محمد يسف، وغيرهم ممن لم يسمحوا لأنفسهم بالتورط في ما يشين ذمتهم، وينقص من مروءتهم. 

قد نقفز على الممارسات المشينة لبعض “فقهاء” المغرب، باعتبار أنها –إن تجوزنا- ممارسات شخصية، وسنتوقف عند بعض الجوانب العلمية التي يتشبث بها بعض المتفقهة لتحقيق مرادهم المتمثل في “التقدم إلى الوراء”.

قُدّر لي أن أتابع مؤخرا نقاشا عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهو حوار ممتع في جملته؛ إلا أن بعض الأفكار والآراء التي أثارها الأستاذ الدكتور الناجي لمين؛ أحد أطراف النقاش؛ أثارت حفيظتي، ووددت تقاسمها مع القراء لتثوير النقاش حولها، لما لها من راهنية أولا، ولمخالفة بعضها لما نصت عليه التشريعات والقوانين المغربية ثانيا، وهو أمر محمود إن استعد له صاحبه بزاد معرفي قوي، وأدلة علمية تعضد ما جنح إليه من رأي مخالف، خصوصا أنه أستاذ في دار الحديث الحسنية، وهي مؤسسة علمية أكاديمية، يحول الانتساب إليها دون الكلام الفضفاض، احتراما لها ولمكانتها.

وقد تنوع النقاش إلى مواضيع متعددة، منها الكلام عن المقاصد الشرعية، والطلاق الشفوي، وإثبات نسب ابن الزنا، وعقوبة الرجم، وعقوبة الردة، والحداثة، وغيرها من المواضيع.

1 – الحداثة:

كتب الأستاذ الناجي لمين منشورات متعددة، تعرض فيها للحداثة، دون تحديد معناها وماهيتها، مع التركيز على لمزها وبيان أنها مخالفة للدين وللفقه، وأنها متعارضة معهما، فقال في منشور مستقل: “مقاصد الحداثة سميت بهتانا وزورا مقاصد الشريعة”، وفي منشور آخر: “فقه التيسير = فقه الحداثة، لأن الحداثة لا تريد أن تتحمل أي تكليف خارج القانون الذي كفل للأفراد حرية شخصية لا يقيدها إلا القانون”، وقال أيضا: “عندما تُتّخذ الحداثة مرجعية لتقويم الأفكار، تصبح أغلب الأحكام الشرعية غير صالحة للحياة، وهذا العطب هو الذي وقعت فيه مدرسة المنار”.

بهذه المنشورات وهذه الأفكار، يشحن فقيهنا عقول متابعيه وتلاميذه، بتأجيج صراع بين الحداثة بشمولها وعمومها، والفقه والشرع، ولم يتنبه الفقيه إلى إيجابيات الحداثة، ومنها تعدد السلط، والفصل بينها، والرقابة الصارمة على المال العام، وغيرها من إيجابياتها، ولو لم ننفتح عليها، لبقينا تحت حكم الفقهاء أمثاله، لا فصل للسلط، ولا رقابة، والمال العام يوزع من العطاء إلى العطاء.

ما هو العيب في الانفتاح على الحداثة؟ ألم يقرر الإسلام –وليس مدرسة المنار- أن الحكمة ضالة المسلم، أنى وجدها فهو أحق بها؟ وهل مناقضة الحداثة مناقضة تامة ومطلقة هي عربون الصدق مع الله والإخلاص في التدين؟

هذه الأسئلة تجعلنا في ريب من معرفة هذا الفقيه بالحداثة، وأنه لا يتجاوز كونه يسمع بهذا المصطلح لا غير، ولو كان متابعا لخطب ومنشورات وزير الأوقاف –على الأقل- لما سمح لنفسه بكتابة مثل هذه المغالطات.

ومن الغريب أن جعلَ فقه التيسير مرادفا لفقه الحداثة، ذما له وتنقيصا، وهذا دليل على خلل منهجي عند فقيه دار الحديث الحسنية، مع العلم أن كثيرا من الأقوال الفقهية المتشددة لا علاقة لها بالفقه الحق، وإن قالها فقهاء، ونُسبت إلى الفقه، مثل كثير من أقوال المذاهب في التعامل مع غير المسلمين، ومثل قولهم بكراهة غسل الأيدي قبل الأكل، وقولهم بكراهة حلاقة الشعر في غير المناسك، وغيرها من الأقوال التي لا مناص من التعامل معها إلا بالإعراض عنها، والتمسك بالتيسير الذي جاء به الإسلام. 

ولنعرض على فقيهنا أقوال الفقهاء في تارك الصلاة، والاختلاف الحاصل بينهم، هل نقتله في اللحظات الأخيرة قبيل انتهاء الوقت، أم نقتله بعد التحقق من دخول وقت الصلاة اللاحقة.

ونعرض على فقيهنا أيضا أقوال الفقهاء في التعامل مع مال المرتد الذي قالوا بقتله، هل تعطى لورثته أم تعمل الدولة على حجزها، أم غير ذلك من الأقوال.

ونعرض على فقيهنا ما قيل في الطلاق المعلق، كقولهم: إن تزوجتُ امرأة من فاس فهي طالق، ثم بعد عشرين سنة، تزوج ذلك القائل امرأة من فاس، وتذكَّر شرطه المعلق، فيفتيه الفقهاء بالطلاق فورا.

وهذه الأقوال وغيرها لا علاقة لها بالإسلام، ولا علاقة لها بالشريعة، وهي في مصنفات الفقهاء مسطورة، وفي دواوينهم مذكورة، والتيسير يدعو إلى نبذها، والحداثة تدعو إلى الإعراض عنها، فمرحبا بالحداثة، ومرحبا بالتيسير الذي سيسحب البساط من تحت أرجل المتشددين رويدا رويدا، وسيجدون أنفسهم على هامش الهامش، يرددون ما قاله الأقدمون، لأنهم لا يعيشون زماننا، وإنما يعيشون معنا بعقول السابقين.

ومن مستغربات فقيه دار الحديث، قوله: “لأن الحداثة لا تريد أن تتحمل أي تكليف خارج القانون الذي كفل للأفراد حرية شخصية لا يقيدها إلا القانون”.

ما معنى أن الحداثة لا تتحمل تكليفا خارج القانون؟

يقصد بكلامه هذا أن القانون مخالف للشرع، وبالتالي، فهو يستنكر الحداثة لأنها تمنعه من التكاليف الخارجة عن القانون، أي تمنعه من الالتزم بأحكام الشرع غير المؤطرة بالقانون.

وهو بهذا يقر ابتداءً بما لم  يتفطن إليه، وهو الاختلاف بين الأحكام الشرعية غير المطبقة، والقانون المطبق. وهذا الانفصال بين الشرع والقانون هو العلمانية، وهذا إقرار منه بعلمانية الدولة، ونظرا لجبن فقيهنا، فإنه لم يقوَ على النضال من أجل تطبيق الشرع الذي يريد، فانتقل إلى ضفة التنديد بالحداثة التي “لا تتحمل” أحكامه، وقفز قفزات في الهواء، ليبين ان مدرسة المنار هي المسؤولة عن هذا الانفصام والانفصال.

ومن الغرائب أيضا، أن صاحبنا يعترف بعلمانية الدولة، وفي المقابل، كتب الدكتور توفيق الغلبزوري تعليقا عليه، يندد بالعلمانية والعلمانيين، فقال يوم 7 غشت: “كثيرون ممن يزعم التخصص المستقل في علم المقاصد، ومعهم الحداثيون أو العلمانيون الجدد، جعلوها معولا أو قنطرة لهدم الشريعة ونصوصها، وحتى يسلم لهم ذلك، سموها بغير اسمها، فبدل مقاصد الشريعة، وسموها بالفكر المقاصدي، وتعمدوا هذا الاسم الفضفاض الرجراج ليجعلوها عجينة طيعة يشكلونها متى وكيف وأنى يشاؤون”.

هذا الكلام الصادر عن أحد رؤساء المجالس العلمية، يتبنى خصومة أو عداوة ظاهرة مع الحداثة و”الحداثييين” أولا، ومع “العلمانيين الجدد” ثانيا، ولسنا ندري مَن المقصود بكلامه المبهم هذا، مع العلم أن الدولة في كثير من قواننيها ونُظمها لا تتعارض مع العلمانية، إضافة إلى أن الدولة لا تتبنى رأيا صداميا مع الحداثة، وتعَيِّن الحداثيين في مواقع حساسة جدا، ولو تتبعنا خطب الملك (هو رئيس المجلس العلمي الأعلى) في هذا المجال، لتبين لنا أنه يتبنى الحداثة نصا وتصريحا في محطات متعددة، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن مواقف هؤلاء الفقهاء الرسميين، هل يمثلون معارضة النظام وأدبياته من الداخل؟ أم أنهم ينتسبون إليه من دون اقتناع؟ أم أن تصريحاتهم وخرجاتهم هذه هي بمثابة إعلان براءة من أدبيات النظام؟ أم أنها مجرد سبق قلم ليس إلا؟

وليستمع “الفقيهان” إلى خطاب الملك أمام البرلمان في أكتوبر 2003، وفيه: “وإننا لنعتبر أن الجماعة المحلية لا يمكنها القيام بدورها كاملا إلا بتضافر جهودها مع المدرسة والأسرة، باعتبار هذه المؤسسات الثلاث محط عنايتنا الإصلاحية الراسخة لبناء المجتمع الديمقراطي الحداثي”.

وليستمعا إلى خطاب الملك الموجه إلى المشاركين في لقاءات فاس حول المقدس والحداثة في شهر يونيو من سنة 2007، وفيه: “والموسيقى الروحية خير تعبير عن “المقدس” الذي ما فتئ يوحد مشاعر الإنسان، ولا سيما حين يسمو به عن نزوعات التعصب والانغلاق، ويتعالى به عن أسباب النفور والشقاق، وهي نفس المقاصد التي تقوم عليها الحداثة في قيمها الكونية والتي لا تسعى إلا لتحقيق الانسجام والوفاق” إلى أن يقول: “فكما أن الحرية واحدة في معناها، والعدالة واحدة في مبناها، فكذلك يجب أن تكون الحداثة واحدة في آلياتها وأهدافها، وفرصة لتجاوز التفاوت والتمييز بين البشر حيثما كانوا، وهنا تلتقي الحداثة بالمقدس، فالمقدس حداثة عريقة، والحداثة مقدس معاصر”.

2 – الطلاق الشفوي:

قال فقيه دار الحديث في منشور يوم 6 غشت الجاري: “عقد الطلاق، وكل العقود شفوية. هذا هو الأصل، وإذا تعذر النطق قامت مقامه الكتابة والإشارة المفهمة … فالشخص إذا قال للرجل زوجني ابنتك، وقال الآخر زوجتك، تم العقد”.

هذا الاقتباس قد يمر عليه البعض مرور الكرام، دون الانتباه إلى خطورته المعرفية والمنهجية، وهو ما لا نسمح به في مناقشة أستاذ في مؤسسة أكاديمية لها وزنها واعتبارها في العالم. وسنسجل الملاحظات المختصرة الآتية:

أولا: سمى الطلاق عقدا، وهو ليس كذلك، بل هو فسخٌ لعقد وحلٌّ له. والعقد لغة واصطلاحا يتضمن معنى الربط والارتباط، والطلاق لا علاقة له بهذا المعنى. 

ثانيا: فقيه دار الحديث يعاني من خلل منهجي أشرت إليه سابقا، وهو اكتفاء بعض المتفقهة بترديد كلام المتقدمين، ظنا منهم أنه الفقه ولا فقه غيره، دون مراعاة للتطورات المتكاثرة والمتسارعة. لذلك زعم أن العقود كلها شفوية، والكتابة نلجأ إليها في حال تعذر النطق. وبناء على مذهب فقيهنا، يمكن أن أذهب اليوم إلى مقاول، وأتعاقد معه شفويا على شراء بقعة أو شقة، دون اللجوء إلى الموثق لكتابة العقد، ودون اللجوء إلى المحافظة العقارية، ودون اللجوء إلى مؤسسة الضرائب، لأن “النطق” غير متعذر بالنسبة للمتعاقدين.

ثالثا: من ماضوية فقيهنا، ضرب مثال الزواج، وأن الرجل إذا قال للرجل زوجني ابنتك، وأجابه الآخر: زوجتك، تم العقد.

وأين المعنية بالأمر؟ وهل هذا هو الدين والشرع؟ وهل هذا ما تنص عليه مدونة الأسرة المغربية؟

إن العقد لا يتم إلا إن وافقت الزوجة موافقة طوعية لا إكراه فيها. ولا يتم بالتوافق بين الرجلين فقط.

ثم، هل يتم عقد الزواج بمجرد العقد الشفوي بين الرجلين –على فرض صحته-؟ أليس في هذا التجويز ما لا ينحصر من المفاسد؟

إذا تبنينا هذا الرأي، قد نقع في نوازل عويصة، وإشكالات قروسطية، كأن يموت شخص وابنته في حادثة مثلا، ثم يأتي شخص آخر ويزعم أنه متزوج من الميتة، وأنه تم العقد شفويا عليها مع أبيها، وأن مذهب دار الحديث يبيح العقد الشفوي، وقد يأتي باثني عشر شاهدا على صحة دعواه، ثم يكون من ورثتها.

ثم استرسل فقيهنا في سرد ما زعم أنه دليل على الطلاق الشفوي، إلى أن قال: “ولو بقينا نسرد هذه الأدلة المطلقة من كل قيد؛ بما في ذلك قيد الحضور عند القاضي الذي لا دليل واحد عليه؛ لطال بنا الأمر، بل إن صريح الطلاق لا يحتاج إلى نية … وكذلك طلاق الهازل يقع بمجرد صدوره من صاحبه”.

وهذا النص يتضمن الآتي:

أولا: ما زال الفقيه التقليدي يؤمن بأن الطلاق مطلق من كل قيد، حيث يجوز للرجل أن يتلفظ به لسبب أو لدونه، متى شاء، وأين شاء. وهذا إيغال في الماضوية، وتثبيت لمبدأ “التقدم إلى الوراء” الذي يتقنه بعض المتفقهة الخارجين عن مفهوم الزمن.

ثانيا: عدم اعتراف فقيهنا بقيد الحضور عند القاضي، رغم أن الاجتهاد الفقهي المغربي المعترف به مؤسساتيا ينص على أن الطلاق يقع تحت مراقبة القضاء، وأنه لا يُعترف بأي طلاق واقع خارج هذه المراقبة، وكلام فقيهنا يدل على تبخيسه للمدونة وللجهود التي بذلت من أجل بلورتها وإخراجها.

ثالثا: زعم فقيهنا أن الحضور عند القاضي ليس له دليل واحد.

نعم، إن كان يفهم أن الدليل هو النص، فمعه حق، ولكن الدليل أشمل من النص، فقد يكون الدليل استصلاحا، وقد يكون الدليل استحسانا، وقد يكون الدليل سدا للذريعة. ومنه نفهم أن الحضور عند القاضي له أدلة متعددة وليس دليلا واحدا، ولكن التقليد يعمي عن الحقائق.

رابعا: إقراره بأن طلاق الهازل واقعٌ متحقق، قولٌ فقهي قديم، وهو غير سائغ مطلقا في عصر الحداثة، وما قبل الحداثة، وما بعد الحداثة.

ومن يقول بوقوع طلاق الهازل، لا يستحضر قيمة مؤسسة الأسرة، وهي نتاج بناء تراكمي قد يطول سنين عددا، وقد ينتج بنين وحفدة، ومع ذلك، نجيز هدمها ولو بالهزل، وقد يكون ذلك الهزل موقعا للبينونة الكبرى، فأي فقه هذا الذي يُغرس في أذهان أطر المستقبل في مقر دار الحديث الحسنية؟

لقد كان العلامة علال الفاسي –وهو من أساتذة دار الحديث- ذكيا ودقيقا حين استنكر أنواع الطلاق التي كانت تقع في عهده وقبله، وضرب لذلك أمثلة، كالمرأة التي تنتظر زوجها في بيتها بكل شوق وحنان، وتتزين له بكل أنواع الزينة، فيأتيها الرسول الذي يبلغها طلاقها من زوجها، لأنه خسر لعبةً مع أصدقائه بعد أن قال لهم: إن انهزم فزوجته طالق. وقد كان العلامة عبد الله بن الصديق الغماري –وهو من فقهاء القرويين والأزهر- يقول بأن الحلف بالطلاق ليس حلفا أصلا، بخلاف ما كان عليه العمل في المغرب.

هذه المحاولات الإصلاحية والتجديدية التي توجت فيما بعد بوثيقة مدونة الأسرة، يأتي من ينسفها نسفا في منشورات منثرة على رؤوس الأشهاد. أليس هذا استخفافا بالفقه وبالاجتهاد وبالمؤسسات؟

ثم نتساءل، لماذا لا يعترف فقيهنا بالحضور أمام القاضي في الطلاق؟

لن نفهم موقفه هذا إلا بالعودة إلى موقفه من الحداثة، فهو يضادها ويجاهد فيها لأنها تمنعه من تطبيق الأقوال غير المؤطرة بالقانون، وهو يريد التطليق دون حضور أمام القاضي، ويريد تطليق الهازل، وكلها أقوال فقهية بالية غير مؤطرة بالقانون، لذلك صرح في منشوره بأن الإجماع على وقوع طلاق الهازل، “والإجماع كاف شاف لمن لم يجعل الحداثة مرجعيته الكامنة”.

وأختم هذه النقطة بما كتبه فقيهنا يوم 3 غشت الجاري: “الشخص إذا قال للمرأة: أنت طالق، أو ذهب في غيابها وأشهد على الطلاق، فإنه لا يحق لا للزوج ولا للزوجة ولا لأي مخلوق آخر أن يبطل تلك العبارة، فهو حق لله … ويكفي أن نعلم اليوم أن الرجل يسجل الطلاق في المحكمة، ويبقى ينتظر السنة والسنتين … ليصبح الطلاق نافذا، فهل هناك نص في الشريعة ولو ضعيف يدل على هذا؟ !!! كيف يعتبر الأستاذ ما يجري في المحاكم اليوم متماشيا مع القواعد الشرعية؟ ويتهم من يتشبث بالنصوص وبكلام العلماء عبر التاريخ وبالإجماع القطعي وبكلام الصحابة في هذه المسألة بالتشدد؟ !!!”.

وهذا النص دعوة صريحة للتحلل من مواد مدونة الأسرة، والالتزام بالموروث الفقهي، فمن أراد أن يقول لزوجته في غرفة النوم أو في المطبخ أو في الشارع: أنت طالق، فطلاقه واقع.

وهذا النص دعوة صريحة إلى عدم الاعتراف بشرعية أحكام المحكمة، لأنه لا يوجد نص ولو ضعيف يمنحها تلك المشروعية، وسؤاله الإنكاري أكثر وضوحا في نزع المشروعية عن ما يجري في المحاكم “كيف يعتبر ما يجري في المحاكم اليوم متماشيا مع القواعد الشرعية؟”

وهذا النص دعوة صريحة لتبخيس عمل المحاكم، لأن أحكام الطلاق فيها لا تصير نافذة إلا بعد السنة والسنتين، وإضافة إلى أن هذه المعلومة غير مضبوطة وغير صحيحة، فإنه يدعو إلى البديل الذي يطرحه، وهو عبارة “أنت طالق”، لأنها سهلة جدا، يطلقها الزوج في أي مكان كان، وتصير نافذة للتو دون تأخير سنة أو سنتين. وكأننا أمام خيارين: الطلاق الفوري، والطلاق البطيء. مع العلم، أن الخيار الثاني هو الأنسب إلى فقه الأسرة.

3 – نسب ولد الزنا:

تبنى جمهور الفقهاء عبر العصور قولا فقهيا مفاده عدم إثبات نسب ولد الزنا، وأنه ينسب إلى أمه فقط.

وهذا القول له سياقه وملابساته، ورغم ذلك، نجد من متقدمي الفقهاء من لم يتبنّ هذا الرأي، ومال إلى تجويز نسبة ولد الزنا لأبيه إن اعترف به وأقره، وهو من اختيارات بعض المعاصرين، منهم العلامة المحدث عبد العزيز بن الصديق الغماري، وأستاذنا العلامة أحمد الريسوني، وقد ترجح عندهما هذا الرأي بناء على أدلة شرعية، وليس بناء على الحداثة وأدبياتها كما يزعم فقيه دار الحديث.

ويمكن أن أقول الآن، ما قاله الفقهاء السابقون صحيح مائة بالمائة في زمانهم، وغير صحيح البتة في عصرنا. ومن كرر مقولاتهم فهو لم يشم رائحة الفقه.

ولست أدري لماذا ننسب الابن إلى أمه، ولا ننسبه إلى أبيه، مع أنهما في الزنى سواء.

وإذا نسب الأقدمون الولد إلى أمه لمعرفتهم اليقينية بذلك، فهم معذورون في عدم النسبة إلى الأب، لأنه لم تكن عندهم الوسائل التي تعطيهم المعرفة اليقينية بأبوته له. أما في عصرنا، فقد استجدت الوسائل المحقِّقة لذلك، فصار قول المتقدمين من التاريخ.

أما دليلهم “الولد للفراش وللعاهر الحجر”، فهو في محل النزاع بين مدعي وبين فراش قائم، أما إذا لم يكن الفراش موجودا، فالاستدلال بهذا الحديث لغو محض.

لكن، كيف قارب فقيه دار الحديث هذا الموضوع؟

قال يوم 8 غشت الجاري متهكما ساخرا: “تقديم أوراق الاعتماد لما بعد الحداثة: قرأت خبرا الآن يقول: إن هيومن رايتس ووتش دعت البرلمان المغربي إلى تبني المقترحات الخاصة بتكريس الحريات الفردية”. يقصدون رفع القانون المجرم للزنى … قلت: لا عليكم، عندنا “لجنة فقهية” من الإسلاميين الآن عاكفة على إيجاد “الأدلة المقاصدية” للبرهنة على أن أولاد الزنى مثلهم مثل أبناء النكاح الصحيح”.

ولم يكتف بالسخرية فحسب، بل عمد إلى التلبيس والتشغيب، وذلك بخلط الأوراق أمام القراء، فقال في منشور يوم 9 غشت: “يتحدثون عن تصحيح النسب، ويغضون الطرف عن عقوبة هذا الزاني المعترف بالزنى، فهم فقط يكافئونه بأن يجعلوا ما تولد من الزنى ابنا شرعيا له، ويشكرونه على اعترافه بهذا المولود المسكين !!!”.

وهذا النص يدل بجلاء على السطحية التي يعاني منها صاحبنا، لأن الفقهاء الذين اجتهدوا ودعوا إلى تصحيح النسب، لا يدعون إلى غض الطرف عن عقوبة الزاني، بل ما فتئوا يذكرون عقوبته في أمثلة “حفظ العرض” في درس الضرورات الشرعية، ولم أفهم لماذا خلط فقيهنا بين إثبات النسب وبين عقوبة الزنى؟

بما أن عقوبة الزنى تناط بالأم ولا تتنافى مع نسبة الابن إليها، فلماذا تكون نسبة الابن إلى الأب متنافية مع العقوبة؟

فإن كان فقيهنا يعلم هذا الخلط، فهو يمارس التشغيب، وإن لم يتنبه له، فهو بعيد عن الفقه، وكلا الأمرين معيب.

ومن خبط الرجل وخلطه، أنه اعتبر نسبة الولد إلى الأب الزاني مكافأة له، فهل نعتبر نسبته إلى أمه مكافأة لها أيضا؟ أم أن التفريق بين المتماثلات أصل من أصول فقيه دار الحديث؟

ومما يدل على أن هذا الفقيه بعيد عن الواقع، أن كثيرا من الزناة لا يعترفون بأبنائهم، ولو كانت نسبتهم إليهم من باب المكافأة، لمَا نفروا منهم، وهل ينفر ويفرُّ الناس من المكافآت؟.

ومما يدل على بعد فقيهنا من الواقع، أن نسبة الابن إلى أبيه ليست مكافأة، بل هي تشديد عليه، لأنه سيتحمل مسؤوليته، والنفقة عليه مدة طويلة، إلى أن يشتد عوده. أما عدم نسبة الابن إلى أبيه، فهي المكافأة العظمى للزاني، لأننا نقول له بلسان الحال، ازن كما تشاء، وأنجب كما تشاء، وأنت متحلل من كل مسؤولية، في حين، نُحمّل للزانية وحدها مسؤولية الابن. ولو كان عند فقيهنا عقل مقاصدي، وفكر مقاصدي، وفهم مقاصدي، لتنبه إلى هذا، لكن العداوة إلى المقاصد تحول دون ذلك.

4 – المقاصد الشرعية:

تضمنت منشورات الأستاذ “غزوة مسلحة” ضد المقاصد وأهلها، فإضافة إلى كونها مقاصد الحداثة وليست مقاصد الشريعة، فإنه اجتهد في الربط بين العناية بالمقاصد والاستعمار في أكثر من منشور، فقال يوم 4 غشت: “إن الحديث عن المقاصد غير المنضبطة بالمذاهب بعد تمكن الاستعمار من بلاد المسلمين، هو استجابة لتبييء ثقافة الحداثة في هذه البلاد … ولا علاقة لها بالمقاصد التي كان يتحدث عنها العلماء، فهم يوافقون العلماء في اللفظ، ويخالفونهم في المعنى … فالمقاصد عند هؤلاء العلماء المذكورين منضبطة بالنصوص الخاصة، ومستندة على أن لا حكم للأفعال قبل ورود الشرع. والمقاصد عند أتباع مدرسة المنار غير محكومة بالنصوص الخاصة، ومستندة إلى التصور الاعتزالي لصفات الأفعال المتعلقة بالمعاملات، ومقلدو مدرسة المنار المساكين لا يستطيعون معرفة هذه الفروق، همّهم هو أن يتخبأوا وراء العلماء فيما يخدم فكرهم الحداثي، والغريب أنهم لا يشعرون أنهم ضحية الحداثة”. وبعد خمسة أيام، أثبت يوم 9 غشت بصراحة ووضوح العلاقة بين المقاصد والمقاصديين والاستعمار، فقال: “وظيفة مقاصد الشريعة عند علماء الإسلام: أقولها صراحة -وقولي مؤيد بما آل إليه أمر القوانين ببلداننا الإسلامية-: إن الحديث عن أهمية المقاصد في بدايات القرن الماضي حلَّ للإدارة الاستعمارية -التي لا تحب أن يكون هناك قانون وثقافة منافسة لقانونها وثقافتها- مشكلةَ إلغاء الشريعة ووضع القوانين بدلها للبلدان المستعمرة بشكل سلس، ففكرة الالتجاء إلى المقاصد استطاعت أن تتعامل مع القانون الأجنبي على أنه وليد حتمية التمدن، وأن ذلك متماش مع المقاصد الشرعية العامة … أما الفقه المذهبي – الذي هو المنافس الحقيقي لقانون المستعمر- فلم يعد صالحا عندهم، … إن المقاصد ليست عوضا عن النصوص، بل هي مكملة لها”.

هذان الاقتباسان يتضمنان فكرتين أساسيتين:

الأولى: ارتباط الاهتمام بالمقاصد بالاستعمار، والهدف هو ضرب الفقه المذهبي.

الثانية: المقاصد الحقة ليست بديلة عن النصوص، بخلاف المقاصديين، فإنهم يتعاملون معها على أساس البديل.

والفكرتان وهم على وهم.

فالفقه فقهان، فقه ميت، وفقه حي.

الفقه الميت، هو الفقه الذي يقتصر على أقوال الأشخاص، ويتضمن التقريرات الجافة، وكأنها نصوص قوانين، لا يتجاوزها المرء.

والفقه الحي، تسري فيه روح المقاصد، لذا قيل عنها: المقاصد قبلة المجتهدين، ولم يقولوا: قبلة المقلدين.

وفي العصور المتأخرة، ساد الفقه الميت وانتشر، وكانت له الغلبة والسطوة، ولا قول يعلو في المغرب على العمل الفاسي والعمل الرباطي وغيرهما، ولا اعتبار إلا للمختصر وشروحه وحواشيه. ومثل ذلك في غيره من الأقطار، وقد انتبه إلى هذا غير واحد من المجددين المجتهدين، مثل رشيد رضا بمصر، والطاهر بن عاشور وشيوخه بتونس، وابن باديس وطبقته بالجزائر، وعلال الفاسي والحجوي الثعالبي بالمغرب، واستحضروا المقاصد في كثير من اجتهاداتهم، ومنهم من أفردها بالتأليف، دون أن يخطر ببالهم أنهم يحاربون الفقه المذهبي/عدو الاستعمار، أو أنهم يخدمون أجندة دول الاحتلال.

لذلك نعتبر اهتمام علماء هذه المرحلة بالمقاصد في الصناعة الفقهية أكثر من سابقيهم، طفرةً في الدرس الفقهي، وضرورة حضارية، وما زلنا في أمس الحاجة إليها وإلى الاستمرار فيها، وافق على ذلك فقيه دار الحديث أو أبى. 

أما الفكرة الوهمية الثانية، فهي تنصل المقاصد والمقاصديين من النصوص، والتحلل منها، وهذه المسألة كررها فقيهنا أكثر من مرة، وغمز كثيرا العلامة يوسف القرضاوي والعلامة أحمد الريسوني، مع العلم أن المقاصديين لا يقولون بهذا، ولا يتبنون هذا الوهم المتخيل عند فقيه الدار، والدكتور القرضاوي من المعتنين بالسنة، كثير الاستدلال بنصوصها، ولا تثريب عليه إن فهم نصا منها بخلاف فهْم فقيهنا، إذ لا حجر في ذلك.

أما الريسوني، فدوننا كتاباته، فهو أول من يعارض المتحللين من النصوص، ويكفي أن نقرأ قوله: “كافة مقاصد الشريعة، إنما هي بنات نصوص الشريعة”، وقوله أيضا: “إن المصدر الوحيد لاستمداد مقاصد الشريعة وتفسيرها هو الكتاب والسنة”، وأنقل من كتابه “مقاصد المقاصد” نصا مطولا لأهميته في نسف وهم فقيه دار الحديث، قال حفظه الله تعالى: “والحقيقة أنه ليس هناك مقاصد للشريعة سوى مقاصد الكتاب والسنة، وكل ما هو خارج عن نصوص الكتاب والسنة وليس له نسب فيها، فليس من مقاصد الشريعة في شيء، أقول هذا لأن بعض المعاصرين بدأوا يصنفون فقهاء الشريعة إلى توجهين: توجه مقاصدي، وتوجه نصوصي، أو مدرسة مقاصدية، ومدرسة نصية، أو فقهاء المقاصد وفقهاء النصوص، وهذا التصنيف ينطوي على خلل فادح، وهو الاعتقاد أو الإيحاء بأن التوجه المقاصدي ليس نصوصيا، أو أنه أقل اعتمادا على النصوص وأقل تمسكا بها. والحقيقة أن التوجه المقاصدي الحق لا بد أن يكون نصوصيا أكثر من أي توجه آخر، لأنه التوجه الذي يدرس النصوص دراسة تامة مجتمعة … فمقاصد الشريعة لا مصدر لها سوى نصوص الشريعة”.

والمقاصديون الذين يدندن حولهم فقيهنا في منشوراتهم لا يتجاوزون ما قرره الريسوني ولا يحيدون عنه، ولعل فقيه الدار توهم أوهاما، ثم صدّقها، ثم كرّ عليها بالنقد والنقض، وهو جهاد في غير عدو.

على سبيل الختم:

نحن وإن ركزنا في مقالنا على منشورات الفقيه الناجي لمين، فإننا لا نقصر فكرة المقال عليه، لأنه ليس وحيدا بلا مثال، بل له نظراء وأشباه، وقد اتخذناه عنوانا وأنموذجا دالا على حالة عامة في الجسم الفقهي المغربي، لأنه يسر لنا الأمر –مشكورا-، بأن وضع بين أيدينا منشورات تصلح لتكون عينة للبحث، وموضوعا للدراسة، ونرجو من القائمين على الجسم العلمائي أن ينبهوا المنتسبين إليه إلى ضرورة الاجتهاد، وعدم التشبث بالهرولة إلى الوراء، وأن يكونوا مسهمين في تطور البلاد وتقدمها، ولا يكونوا عنصرا مسهما في تكريس التخلف وترسيخ الماضوية.

كما أشير في النهاية إلى أن موضوعات أخرى حبست القلم عنها لطول المقال، مثل موقف الفقيه الناجي لمين من الردة وعقوبتها، وعقوبة الإفطار في نهار رمضان، ورجم الزاني، وغير ذلك من القضايا التي أثارها في منشوراته. 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد