الرائدة في صحافة الموبايل

لمن لا يعلم: الفكر المقاصدي من صميم مقاصد الشريعة

الدكتور عبد النور بزا

مقولة الدكتور توفيق الغلبزوري ” ( فكر مقاصدي ) لا خطام له ولا زمام، يرسلونه يرتع ويعيث فسادا في أصول وفروع الإسلام. ” 

مقولة غيرتها بادية على مقاصد الشريعة، ورفضه واضح لما آل إليه واقع البحث العلمي فيها من ضعف وابتذال لدى البعض. وهي غيرة مقدرة ورفض له وجاهته مبدئيا ولا شك. 

ومع ذلك تبقى مقولة حمالة أوجه أيضا. ولذلك فهي بحاجة إلى تجديد النظر فيها بما يبين عن موقعها في ميزان الصواب والخطأ العلمي. 

فإذا كان قصد أخي سي توفيق منها التحذير من فكر معين يدعي الانتساب إلى المقاصد دون أي جامع علمي بينهما في حقيقة الأمر؛ كما هو صنيع بعض التوجهات العلمانية التي توظف المقاصد وتستنجد بها لإضفاء المشروعية على مدعياتها الفكرية؛ فقد أصاب. 

وقل مثل ذلك عن مجموع البحوث أو المقالات التي تحمل عناوين متعددة في مجالات مختلفه باسم الفكر المقاصدي وهي ليست من النضج ولا من الكفاءة العلمية ما يجعلها تعبر عن حقيقة ذلك الفكر. فإذا كان هذا قصده أيضا؛ فقد أصاب أيضا؛ وهو الراجح المستفاد من قوله في تدوينة سابقة له:” كثيرون ممن يزعم التخصص المستقل في علم المقاصد، ومعهم الحداثيون أو العلمانيون الجدد، جعلوها معولا أو قنطرة لهدم الشريعة ونصوصها، وحتى يسلم لهم ذلك، سموها بغير اسمها، فبدل مقاصد الشريعة، وسموها بالفكر المقاصدي، وتعمدوا هذا الاسم الفضفاض الرجراج ليجعلوها عجينة طيعة يشكلونها متى وكيف وأنى يشاؤون.”

 وأما إذا كان قد غير رأيه هذا وأصبح قصده منها التعميم الذي يشمل كل الإنتاجات المعرفية المقاصدية التي تحمل عنوان الفكر المقاصدي بإطلاق؛ فلي معه كلام فيما يلي:

لمعرفتي الشخصية بأخي سي توفيق؛ فإنني أنزهه أن يقصد بها كل فكر مقاصدي بإطلاق. وأما إذا كانت قناعته بخلاف ما نزهته عنه؛ فأقل ما يقال له: إنه بحاجة إلى معاودة النظر في مقولته وأن يحذفها بالمرة؛ وذلك لسبب بسيط؛ وهو أنها لا تمت بصلة إلى المراد بمسمى الفكر عموما؛ بما هو حاصل ما يصل إليه العقل من معارف علمية، من خلال إعماله فيما هو قابل للبحث العقلي، كما قال الراغب الأصفهانى:

” الفكرة: قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتَّفَكُّرُ: جولان تلك القوة بحسب نظر العقل … ورجل فَكِيرٌ: كثير الْفِكْرَةُ. 

قال بعض الأدباء: الْفِكْرُ مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل الفكر في المعاني، وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها.” مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق، صفوان عدنان الداودي، دار القلم، دمشق، ط1، 1412هـ، ص 643.

وجاء في المعجم الوسيط: “الفكر؛ إعمال العقل في المعلوم، للوصول إلى معرفة مجهول.” المعجم الوسيط. لإبراهيم مصطفى و أحمد الزيات و حامد عبد القادر و محمد النجار. دار الدعوة. تحقيق مجمع اللغة العربية. د. ط، ولا ت. 2 / 698. وهو ما يفيد بأنه لا عقل دون القدرة على التفكير وإنتاج الفكر ابتداء. ومن ثم؛ فما دام الإنسان قادرا على التفكير السليم؛ فقد تحقق بأول مقاصد العقل الضرورية وهو مقصد الفكر المبدع؛ الذي بموجبه يتميز عمن لا فكر لديه من الكائنات. وهذا المعنى يجد تأصيله في مجموع الآيات الداعية إلى التفكير العقلي في الخلق والأمر؛ كما في قوله تعالى: ﴿ أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى.﴾ ( الروم: 8 ). وقوله: ﴿ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.﴾ ( الرعد:3 ). وقال: ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ.﴾ ( البقرة: 219- 220 ). وفي الأثر: ” تَفَكَّرُوا في آلاء الله ولا تَفَكَّرُوا في الله.”

وعليه؛ فالفكر المقاصدي ليس بدعا من القول؛ بل هو من صميم ما يجد تأصيله في أصل الأصول وهو القرآن الكريم والسنة النبوية ابتداء وانتهاء، كما قال د. الريسوني:” إن بعض المثقفين الخائضين في مقاصد الشريعة، أصبحوا يعولون في تقريرها وتفسيرها على ذاتيتهم ومرجعياتهم الفكرية والفلسفية والسياسية، أكثر مما يعولون على الكتاب والسنة، لذلك تعيّن علينا اليوم أن نقول –ولو من باب التذكير-: إن المصدر الوحيد لاستمداد مقاصد الشريعة وتفسيرها هو الكتاب والسنة … وأن كافة مقاصد الشريعة، إنما هي بنات نصوص الشريعة.”  قواعد المقاصد: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، ط1، 1041ه/ 2020م ص 487 – 494. 

و ” الحقيقة أنه ليس هناك مقاصد للشريعة سوى مقاصد الكتاب والسنة، وكل ما هو خارج عن نصوص الكتاب والسنة وليس له نسب فيها؛ فليس من مقاصد الشريعة في شيء، أقول هذا لأن بعض المعاصرين بدأوا يصنفون فقهاء الشريعة إلى توجهين: توجه “مقاصدي”، وتوجه “نصوصي”، أو مدرسة مقاصدية، ومدرسة نصية، أو فقهاء المقاصد وفقهاء النصوص.

 وهذا التصنيف ينطوي على خلل فادح، وهو الاعتقاد أو الإيحاء بأن التوجه المقاصدي ليس نصوصيا، أو أنه أقل اعتمادا على النصوص وأقل تمسكا بها. والحقيقة أن التوجه المقاصدي الحق لا بد أن يكون نصوصيا أكثر من أي توجه آخر، لأنه التوجه الذي يدرس النصوص دراسة تامة مجتمعة دراسة ظاهرية وباطنية معا، دراسة لفظية ومقصدية معا، دراسة كلية وجزئية معا… ومن هنا؛ فإن من لا يعولون على النصوص الشرعية منفردة ومجتمعة ولا يدمنون النظر والتنقيب من معانيها ومراميها متحدة متضافرة ولا يستخرجون مقاصد الشريعة من خلالها؛ هؤلاء لا يمكن اعتبارهم من أهل المقاصد، ولا من أصحاب التوجه المقاصدي، في فقه الشريعة. فمقاصد الشريعة لا مصدر لها سوى نصوص الشريعة. مقاصد الشريعة مبتداها الكتاب والسنة، ومنتهاها الكتاب والسنة، ومن لم يكن على هذا؛ فليس بسائر في طريق المقاصد الحقة ولا هو من أهلها .” مقاصد المقاصد، لأحمد الريسوني، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2013، ص 7.

وعليه؛ فإن استعمال مصطلح الفكر المقاصدي للدلالة عما أنتجه العقل المسلم من فكر مقاصدي على امتداد وجوده التاريخي؛ لا مانع منه، ولا مشاحة في استعماله؛ ما دام أن ” الفكر المقاصدي أولا هو الفكر المتشبع بمعرفة كل ما له علاقة بمعاني مقاصد الشريعة وأسسها ومضامينها من حيث الاطلاع والفهم والاستيعاب. 

والفكر المقاصدي – فوق الاطلاع والفهم والاستيعاب – هو الذي آمن واستيقن مقصدية الشريعة في كلياتها وجزئياتها، وأن لكل حكم حكمته ولكل تكليف مقصده أو مقاصده.

والفكر المقاصدي هو الذي يفهم نصوص الشريعة ويفقه أحكامها في ضوء ما تقرر من مقاصدها العامة والخاصة.

والفكر المقاصدي – في بعض مستوياته العليا – يصبح مسلحا بالمقاصد ومؤسسا على استحضارها واعتبارها في كل ما يقدره أو يقرره أو يفسره، ليس في مجال الشريعة وحدها؛ بل في كل المجالات العلمية والعملية. 

بعبارة أخرى؛ فالفكر المقاصدي هو الفكر المتبصر بالمقاصد، المعتمد على قواعدها المستثمر لفوائدها.” الفكر المقاصدي، قواعده وفوائده، لأحمد الريسوني، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، ص 34، 35. 

وهو ما يقطع بأن الفكر المقاصدي ليس بدعا من القول ابتدعه هذا العالم أو ذلك المفكر من عند نفسه، باستقلال عن الشريعة؛ كما يتوهم بعض المشنعين على هذا الفكر بغير علم. بل هو فكر أصيل راسخ يستمد أصالته من صميم أحكام الشريعة نفسها ولا مرجعية له سواها.

 وهذه ليست مجرد دعوى ندعيها نحن اليوم؛ بل هي عين الحقيقة التي قررها أساطين العلم وأكدوا عليها من زمان.كالإمام الغزالي فيما نصه:” مقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع، فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع؛ فهي باطلة مطرحة، ومن صار إليها فقد شرع.” المستصفى، 1 / 179.

وهذه ذات المصادر الشرعية الأصلية القطعية التي اعتمدها الشاطبي في تقرير ما قرره في    ” الموافقات” من مقاصد الكتاب والسنة؛ إذ قال: ” ولما بدا من مكنون السر ما بدا، ووفق الله الكريم لما شاء منه وهدى، لم أزل أقيد من أوابده، وأضم من شوارده، تفاصيل وجملا، وأسوق من شواهده، في مصادر الحكم وموارده، مبينا لا مجملا، معتمدا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية، ومبينا أصولها النقلية، بأطراف من القضايا العقلية، حسبما أعطته الاستطاعة والمنة، في بيان مقاصد الكتاب والسنة.” الموافقات، 1 / 9. 

وجاء عنه في سياق آخر ما نصه: ” فإنه بحمد الله أمر قررته الآيات والأخبار، وشد معاقده السلف الأخيار، ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشيد أركانه أنظار النظار … وهو       ” صلب العلم ” وهو الأصل والمعتمد، والذي عليه مدار الطلب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين؛ وذلك ما كان قطعيا أو راجعا إلى أصل قطعي… وهو ما يرجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين، وهي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها، وهي أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها؛ فلا إشكال في أنها علم أصيل، راسخ الأساس، ثابت الأركان.” الموافقات، 1 / 13؛ 108.

وعليه؛ فكل ما أنتجه العقل الإسلامي من هذا الفكر؛ كان الوحي هو مرجعه الأساس. وهو ما يقطع بأن مرجعية المقاصد هي استقراء ما نصت عليه الشريعة، وأجمع عليه علماؤها منذ عهد الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل العلم؛ ولذلك؛ لا سبيل إلى معرفة مقاصد الشريعة إلا من خلال العلم والعمل بالكتاب والسنة، والاستعانة بفقه من مضى من أئمة السلف؛ كما جاء عن الشاطبي في سياق آخر من الموافقات. 1 / 7. 

وحاصل القول: إن ” نصوص الشارع مفهمة لمقاصده؛ بل هي أول ما يتلقى منه فهم المقاصد الشرعية.” كما قال السبكي في الإبهاج في شرح المنهاج،  3 / 186. ولذلك؛ فكل” من لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي؛ فليس على بصيرة في وضع الشريعة.” البرهان، 1 / 206. وذلك بحكم أن المقاصد أرواح الأحكام، مثل ما هي أرواح الأعمال. 

وبهذا تبطل كل الدعاوى القائلة ” ببدعية الفكر المقاصدي “، وتسقط كل الأقاويل المنادية بـ” توظيفه ” بعيدا عن مصادره الشرعية الأم؛ ممثلة في الكتاب والسنة والإجماع. وما استفيد منها من أصول وقواعد ومقاصد. 

وفي هذا القدر كفاية بيان لوجه الصواب في مسمى الفكر المقاصدي المستفاد من مقاصد الشريعة، وكل ما خالفه؛ فليس منه في شيء ولو أدخل فيه بالتأويل. وبه تم البيان والسلام. 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد