الرائدة في صحافة الموبايل

مقاربات حول نظرية الدولة الايجابية عند عبد الله العروي

ذ/ سعيد أرجدان، باحث جامعي في فلسفة القانون

  عرف المفكر المغربي بسلسلة دراساته حول مجموعة من المفاهيم ذات الحمولة الفلسفية المؤسسة، و هو يشير إلى أن الاهتمام بمقاربة هذه المفاهيم جزء لا ينفصل عن مشروعه الفكري العام، و يشير في كتابه ( مفهوم الحرية)  إلى أنه لا يهدف إلى البحث في مفاهيم مجردة لا يحدها زمان ولا مكان، بل إنه يقصد بالأساس البحث في مفاهيم تستعملها جماعة قومية معاصرة هي الجماعة العربية و هذا ما يستدعي في نظره ضرورة الحرص على البدء بوصف الواقع المجتمعي بغية الوصول إلى مفاهيم معقولة صافية من شأنها الكشف عن حقيقة المجتمع العربي الراهن.

و في هذا السياق المفاهيمي يتناول العروي ( مفهوم الدولة) في كتابه الحامل لنفس العنوان الصادر عن المركز الثقافي العربي و الذي يتضمن سبع فصول أولها الفصل الذي خصصه المؤلف لما يسميه ( نظرية الدولة الايجابية) و هي خلاصة نظريات فلسفية حول الدولة تنهل من مشارب متعددة لتنتهي بإبراز أهمية المتن الهيغلي باعتباره يشكل تجاوزا لمسلمات النظريات التعاقدية للدولة، لكن مع الاحالة على القراءات النقدية لهذا المتن و التي يجنح بعضها إلى التقليل من أهميته باعتباره نوعا جديدا من الاسطورة المؤسسة كما هو الحال عند الفيلسوف الالماني ارنست كاسيرر، بينما يرمي جانب آخر من القراءات النقدية إلى بيان إمكانية تجاوز النظرية الهيغلية حول الدولة دون القدرة على تفنيدها.

و يمهد عب الله العروي لهذا النقاش بالاشارة إلى أن تجربة الحرية تستبطن تجربة الدولة، باعتبار أن هذه الاخيرة تمثل الوجه الموضوعي القائم، و بالتالي فالحرية تستدعي الوعي بحدود التصرف و معاناة السلطة، بينما يتفادى القانون الخوض في مثل هذه الاشكاليات مكتفيا بتعريف الدولة باعتبارها واقعا اجتماعيا، و يعتبر العروي أن مثل هذا التعريف لا يتجاوز كونه نوعا من ( الأدلوجة) التي ترتكن إلى أفكار مسبقة بديهية.

و يرفض العروي أن يسلم بإمكانية الانطلاق من فرضيات تصور فردا خاما لا فكرة لديه حول الدولة، طالما أن هذه الأخيرة كانت دوما واقعا مزامنا للإنسان لا تنفصل عن ماهيته، و خلاصة الأمر أنه إذا كانت الدولة سابقة على التساؤلات الفكرية حولها، فإن أدلوجة الدولة سابقة على كل المحاولات لتأسيس نظرية لها، و يبقى أن تداعيات التساؤلات حول الدولة لا تؤدي بالضرورة إلى قيام نظرية بقدر ما يترتب عنها في الغالب نوع من التبرير الايديولوجي، خاصة في الدراسات القانونية التي لا تطرح تساؤلات عميقة و جذرية حول الاشكالية بقدر ما يهمها التنظير للتجربة الفردية الأولية في صيغتها الخام، فضلا عن كون باقي المقاربات العلمية تتسم بالاختلاف تبعا لتعدد المرجعيات و المقاربات ، فإذا كانت الفلسفة تسعى إلى البحث عن الأهداف المطلقة للدولة، فإن علم الاجتماع يركز على الوظيفة و الآليات المجتمعية، أما المؤرخ فيهمه بالأساس رصد الاطوار و المراحل و الصيرورة.

لكن مقاربة مفهوم الدولة في نظر العروي لا تستدعي في الغالب انحصار النظر في مرجعية واحدة موجهة بقدر ما تتداخل فيها الرؤى بصفة حتمية، لأن نقطة الانطلاق  الفريدة تؤول الى نتائج تنفتح على آفاق أخرى و هذا لا يعني بأي حال من الأحوال تجاوز استقلال كل من المقاربات القانونية و الاجتماعية و التاريخية و الفلسفية بشروطها و ميكانيزمات اشتغالها المعرفية.

و يعتقد العروي ان البحث حول ماهية الدولة باعتبارها معطى في الواقع لا يمكن إلا أن يكون مقترنا بتحديد أهدافها، و يستحيل في نظره أن تكون هذه الأهداف خارج نطاق الدولة إذا تعلق الأمر بمحاولة التقعيد لنظرية مؤسسة للمفهوم، لأن البحث عن مثل هذه الأهداف يستوجب النظر الى الدولة باعتبارها وسيلة لخدمة ما سواها و بالتالي ينقلب مفهومها ثانويا و عرضيا غير ذي مكانة جوهرية، و هذا ما ينطبق بالفعل على كتابات و أعمال أغلب المفكرين الذين لم يحالفهم التوفيق في بناء نظريات للدولة من داخلها، و لهذا يحاول العروي لم شتات أطاريح جمهرة المفكرين الذين لم يتناولوا الدولة باعتبارها كيانا مستقلا و إجمالها في مقالتين جوهرتين.

تتعلق المقالة الأولى حسب العروي بمقاربة تنطلق من خطاب موجه بالاساس إلى الوجدان الفردي ليحصر اهتمامه الاساسي بهدف أعلى غائي مفارق للملابسات الواقعية المباشرة، و يترتب عن ذلك أن الدولة حسب هذا الخطاب لا يمكن أن ينظر اليها إلا باعتبارها كيانا اصطناعيا مؤقتا ليس غاية في حد ذاته، و إنما غايته هي خدمة الفرد و تهيئته للوصول إلى الهدف المفارق، و هذا الكيان يستمد مشروعيته من قدرته على الوفاء بهذه الوظيفة، و يفقد هذه المشروعية إذا انحرف عنها و اتجه لتلبية شهوات دنيوية مما يجعلها وليدة الطبيعة الحيوانية للانسان، و لهذا يرى العوي أن الدولة هنا ليست أكثر من كونها حاشية لنظرية الأخلاق لأنها مكرسة لتبليغ الشريعة و أنظمة القيم للفرد باعتباره المخاطب النهائي بها، و هذا الأخير يخضع لقانونين أحدهما جواني ينحصر في عمق الوجدان و الثاني براني تصدره الدولة ، و ليس بالضرورة أن يختلف القانونان من حيث الأهداف.

أما المقالة الثانية فتنطلق من كون الدولة ليست إلا ظاهرة طبيعية من ظواهر الاجتماع الانساني، الذي تتجه غاية الانسان فيه ليس إلى مطلب ماورائي مفارق، و إنما إلى تحقيق السعادة و الرفاهية و المعرفة و تلبية الحاجيات الدنيوية، و لما كانت قوة الأنسان في الأساس جماعية باعتبار أنه مدني بطبعه، فإن العقل يستسيغ النظر الى الدولة باعتبارها كيانا يخدم المجتمع، مثلما يخدم هذا الأخير الفرد العاقل، و بالتالي يفترض أن لا يكون ثمة تناقض بين الدولة و بين الفرد و المجتمع، و إذا وقع مثل هذا التناقض فمرجعه سبب غير طبيعي غالبا ما يكون هو الاستبداد، الذي يجعل الدولة فاسدة تخرج عن ماهيتها الطبيعية و تشكل مؤامرة ضد الانسانية، و لا تستحق أن تكون موضوع بحث فلسفي.

و يرى عبد الله العروي أن كلا المقالتين و رغم تعارضهما الظاهري إلا أنهما متفقتان في عمق الاشكالية الفلسفية، التي يعتبر الفيلسوف الالماني ارنست كاسيرر خير من عبر عنها في كتابه ( أسطورة الدولة)، ذلك أنه يرى أن التفكير في اشكالية الدولة وفق المنطق العقلاني ( خاصة وفق أصوله الكانطية) يستدعي النظر اليها ككيان اصطناعي من ابداع الفرد الحر لخدمته، و أن عودة المقاربة الاسطورية للدولة كانت مع ميكيافيللي الذي احتضنه هيغل لاحقا مما فتح المجال للقول بفصل نظرية الدولة عن المرجعية الاخلاقية و تمييزها عن الفرد خاصة مع انهيار نظرية الحق الطبيعي.

و يرى العروي أن مقتضى ما تمخض عن المقالتين السابقتين يستدعي القول أنهما يقفان معا على عتبة نظرية الدولة، على أساس أن كل ما ورد فيهما ليس إلا تمهيدا لهذه النظرية يستند إلى  مجرد فرضيات سابقة لمقتضيات فكرة المجتمع الطبيعية و ما يتعلق بها من إرادة عامة معطاة سلفا و ليست محدثة، بالاضافة إلى استحضار مفهوم التربية و التنشئة المدنية، التي لا تترك مجالا لافتراض امكانية سبقية وجود افراد من النوع الانساني خارج الدولة و المجتمع إلا إذا تعلق الأمر بكائنات غير عاقلة ( حيوانية).

و يحاول العروي تقديم مقالة فلسفية بديلة للمقالتين اللتان تلخصان نظرية الدولة في اهداف خارجية تتعلق إما بالأخلاق أو المصلحة ، و يستند في ذلك إلى الفيلسوف الالماني هيغل، لأنه ( في تصوره) يلخص أقوال أفلاطون و ماكيافيللي و يفند أقوال أغسطين و روسو و كانط.

 و في هذا السياق يبين العروي كيف يرد هيغل على المقالة الاولى بالقول أن الفلسفة التي تهدف إلى كشف معنى الدولة لن تصل إلى الواقعية الحقة إلا إذا وحدت بين نطاقي الأخلاق و الدولة، وهذه الاخيرة لن تكون كاملة إلا إذا جمعت بين الوحدة و الازدواجية ، لأنه لكي تتحقق الدولة كواقع أخلاقي يجسد الروح بوعي تام لابد من أن تتميز عن السلطة و عن الاعتقاد ، لذلك نجد في الاستبداد الشرقي وحدة الدولة و الكنيسة و لا نجد فيه دولة ، لأن القانون هنا لا يتجسد فيه ما يناسب الروح من أخلاقية حرة و تطور عضوي، بينما نجد في الدولة الحديثة إمكانية ترك الذات تحقق إلى أقصى مدى خصوصية نفسها المستقلة مع ردها في نفس الوقت إلى الوحدة الجوهرية للدولة، أي أنها تحتمل التناقض و تتجاوزه.

أما فيما يتعلق بنقد المقالة الثانية فيرفض هيغل تأسيس الدولة على فكر المصلحة لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى التناقض بينها و بين فكرة التضحية التي يطالب بها المواطن فداء للدولة، طالما أن هذه الأخير لن تتجاوز فكرة ( الشركة المدنية) التي ينحصر هدفها في ضمان حياة و ملكية الافراد و الدفاع عن المجتمع المدني.

و البديل الذي يدافع عنه هيغل هنا يتمثل في القول بأن قوة الدولة تكمن في وحدة الغاية العامة مع المصالح الخاصة للاسرة و المجتمع المدني ، لأن كلا منهما يتحملان واجبات لفائدة الدولة بقدر ما يتمتعان به من حقوق، و أي شرخ أو انفصال بين الحقوق و الواجبات يؤدي إلى انهيار الدولة، و بهذا الترابط العضوي نصل إلى المعنى الحقيقي للحرية، و هذا يؤدي إلى القول بوجود دستور ينظم هذا الترابط لا يحتاج بالضرورة للتعبير عنه كتابة، و لذلك يخلص هيغل إلى أن هذه النظرية هي وحدها الممكنة عقلا.

و يورد العروي مجمل الانتقادات الموجهة إلى أطروحة هيغل حول الدولة من طرف التيار الذي تجلت أطروحاته في ما سبق بيانه من مقالتين، و يوضح كيف أن هذا التيار ينتهي به القول إلى القول بنفي ضرورة الدولة ضمنيا، لأنه يرى أنها تعادي باستمرار الوجدان و الحرية ، و يمثل هذا التيار موقف المفكرين ذوي النزعة الليبرالية و الدينية من أمثال ليوشتراوس و كارل بوبر و إرنست كاسيرر..إلا إذا استثنينا النقد المختلف الذي وجهه الفيلسوف الالماني/ الفرنسي إريك فايل الذي يتميز عموما بنوع من الاعتدال، و الذي يرفض اعتبار نظرية هيغل في الدولة نوعا من الاسطورة كما يذهب إلى ذلك إرنست كاسيرر، بل إنه يعتبرها نظرية علمية بكل ما للكلمة من معنى لأنها تحاول مقاربة مفهوم الدولة كما هي الان و كما ستكون باستمرار مادامت ضرورية للإنسان، و لذلك يمكن تجاوزها لكن لا يمكن تفنيذها، و يقع هذا التجاوز إما بسبب الحرب الذي سوف تؤول إلى محاولة التأسيس لنظام عالمي، مما يحيل إلى التصور الكانطي بعد نفيه بخصوص النظرة إلى الفرد الحر العاقل عنده، و قد يقع هذا التجاوز بسبب الجدل الداخلي للدولة، و الذي من شأنه تطابق الدولة الكاملة الهيغلية مع المجتمع الاشتراكي الماركسي.

و يذهب المفكر المغري عبد الله العروي في ختام هذا التحليل ختام هذا التحليل إلى الانتصار لأطروحة هيغل رافضا نعتها بالمذهب الاسطوري، معتبرا أن كل اعتراض على هذه النظرية من شأنه تصنيف المعترضين في عالم الطوبى المحبب إلى النفس و البعيد عن الواقع السياسي الملموس، لاسيما أن نظرية هيغل هي نقطة الالتقاء و التحول بين القديم و الحديث، أي بين التيار الميتافيزيقي الديني الذي يمثله أوغسطين و بين الموقف اليبرالي الاخلاقي عند كانط،  و كلاهما يمثلان أدلوجة الوجدان التي تشكل أطروحة هيغل نظرية نقدية لها.

و إذا كانت نظرية هيغل نقدا لأدلوجة الوجدان، فإنها بدورها كانت محلا للنقد الماركسي، مما يجعل العروي يفرد فصلا خاصا للنظرية النقدية للدولة في صيغتها الماركسية في  مؤلفه مفهوم الدولة ، سوف نتناولها في مقال مستقل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد