الرائدة في صحافة الموبايل

دلالات جسر الشهداء لدى جمال قيس في كتابه “بين الرصافة والجسر”

“بين الرصافة والجسر”.. تجسير العبور من الرصافة إلى الأسطورة لمحاربة القذارة المادية والمعنوية.

عبدالله علي شبلي، كلميم / المغرب.

هاي هي ،، للمرة الثانية يلتقي بها ،،بعد يوم ،، وهو جالس في زاويته المطلة على الشارع من المقهى ،،تسمر نظره عليها ،،هي ليست من الفريق اليومي للشحاذين الذين يرتادون المقهى،،
عندما تقدمت بأتجاهه ،،، شعر بأن جسمها يتداعى ،،على القدم اليمنى ،،اشبه بالانهيار لكتلة من الصناديق ،،لم يُحسن رصفها،،وفجأة. يتوقف كل شيء،،وما كاد ان يلتقط أنفاسه ،،من هول المشهد،،حتى بدأت حركة أخرى منها ،،نوع من العودة الى الخلف ،،( بندول مصاب بمحنة ) ،،شيء لاتحكمه قوانين الفيزياء او الديناميكا ،،ربما قانون اللاتعيين ،،وضع من أجل تفسير حركتها أو ما شابه ،، عودتها الى الخلف بتقوس ،،وهيهات لك ان تحزر،،اين انتقل مركز الثقل ،،وممايزيد صعوبة التوقع،، أرتداؤها جِلْبابا فضفاضاً،،لايمت بصلة من صنعه الى عالم الخياطة،،،نوع من القطيفة المصنعة من البوليستر ،،بلون أزرق غامق ،،وعندما تغض الطرف عن مجمل هذه التفاصيل،،،هي بملامح جميلة رغم العوق والتقدم بالسن ،،لاتوحي بغير اللطف ،،،ووداعة ،،لم تستطع التجاعيد ان تخفيها ،،،وطول ممشوق ،،ربما كانت عارضة أزياء فيما مضى ،،لان العوق. جلي بانه حدث متأخراً. ربما جراء. حادث. ،،، ( لكن مالذي جذبني أليها ؟ ،،،،لا اعرف،،بالتاكيد هناك صلة ما – ألم يقل هذا المجنون أنشتاين ،،بأن الكون أحدب،،او بما معناه ان كل شَيْء مرتبط بِشَيْء – لغط من هذا القبيل – او ربما حلول و اتحاد – هكذا دائماً انتِ تهذي عندما لاتجد تفسيراً منطقياً – لابد من أنك شاهدتها قبل يوم أمس – لكنها كانت تفترش زاوية ولم يظهر مدى عوقها الجسدي )

نوع من الطقوس الشبه يومية له،،كانت أقدامه تجوس نفس الطرق في جولته ،، للأماكن الأثيرة على نفسه ،،عبوره جسر ( الشهداء ) ،،ولايعرف لماذا يشعر بأنه جسر قصير ،،وحميم،،معبر كوني وكبسولة زمنية ،،في فضاء ذاكرته المثقوبة ،،لانه عندما يتوجه من الكرخ الى الرصافة. يدخل صميم بغداد القديمة،،نوع من الولوج بثقب لروحها ،،التي تستنجد وهي في نزعها الأخير ،،في قمة الجسر ،،يشخص منظر المنارات والقبب لمسجدي ( الآصفية والوزير ) وكأنهما حارسين لقلعة باتت بلا أسوار ،،وأمكانية. غزوها. في أي. لحظة قائمة ،، مع أن العدوان تم. منذ زمن. بعيد ،،وتم فقدان. الإحساس. بالزمان. و أكثر ما يثيره حلتهما القاشانية ،،،وعلى اليمين يجاور الآصفية ،،المدرسة المستنصرية ،،وبقايا المدرسة النظامية الذي تحول الى سوق لبيع النعل والاحذية الصينية ،،هي بكل. الاحوال نوع من التبديل في الخطة ،،ان تبدل العلم والتاريخ بالنعل،،،ربما هو رد ناجع على الغزو ،، كل هذا شيء متداخلٍ بشيء ،،لدرجة ،، تشعر ان هناك بقايا ممن نجوا من مذبحة هولاكو ،،مختبئين لحد اللحظة،،ولكنهم يتلصصون النظر على عصرنا خلسة ،،مرد هذا الامر في نفسه،،،رفضه للحاضر ،،،ويتخذ مساره يسار جامع الوزير،، الى سوق السراجين ،،والوراقين،،ويقفز الى ذاكرته الجاحظ والتوحيدي بالتأكيد هما الان يزاولان مهنة العتالة،،،مخترقاً الجزء الأسفل من شارع الرشيد ،،ومن ثم الى سوق الهرج،،،ومتعة النظر الى المعروض في سوق الملابس المستعملة ،،،نوع من العقدة النفسية بالتشبه ،،للزي الغربي،،تقريباً،،، مع انه مقتنع ان ( البالة ) هي ليست في البضائع فقط وإنما ،،تشمل البشر. أيضاً. ( كل شعوبنا عبارة عن ” بالة ” – الصناديق التي في رؤسنا لا تحتوي على غير الهراء التاريخي المستهلك ) ،،،

هو يعرف جميع من في طريقه من اصحاب المحلات،،،وربما يحفظ وجوه اغلب رواد،،سوق الملابس،،والمجانين والشحاذين ،،والنصابين والسراق،،والمنحرفين ،، ينهمك بالتمعن بهم. يحاول. ان لاتفوته شاردة عنهم ،، يشعر بأنهم أناس حقيقيون يضجون بالحياة ،،عندما تقصى الى الهامش ،،صحيح. ان روحك يصيبها العطب لكنك. تكتسب الحرية ،،وتتصرف بصدق ،،دون مواربة ،،،وربما هي متعته الوحيدة ،،،الامر الذي ينتهي بجولته ،،بالجلوس في مقهى (الأسطورة ) ،،، ليكمل استمنائه المنهجي ،،،مع صوت ام كلثوم ،،وإذا كان محظوظاً،،شغل صاحب المقهى أغنية ( جددت حبك ) ،،التي يبكي معها كلما سمعها حتى لو تكررت في اليوم الواحد على مسامعه لأكثر من مرة ،،،،
في اليوم الماضي شخصت امام بصره،،في سوق الملابس،،هو لم يرها من قبل،،( ياالله،،،انها زائر من مجرة أخرى – ربما مبعوث فوق العادة )
أقترب منها ودس في يديها مبلغاً من المال،،،وشده بريق عينيها ،،الذي بدا مألوفاً لديه،،ونظافتها ،،وسط هذا المحيط من القذارة ،،بصنفيها المادية والروحية ،،وأحزنه الامر عندما علم انها لاتستطيع الكلام،،،وانسحب وهو يقلب ،،في ارشيف ذاكرته،،ولما أعياه الامر،،أقصى صورتها عن مخيلته ،،،وهاهي الان تأتي أمامه في المقهى ،،،

جمال قيسي / بغداد.


منذ تلقيك للعنوان الحابل بدلالة عميقة من تاريخ قصي عبق وأنت غارق في التإويل والرمزية ، وان تغافلت عن الرصافة و كنت بدون خلفية معرفية ، فلعل أقل ما تنسب إليها ” الرصافي شاعرا ” ، أما الجسر فلا شك أنه عبور إلى جانب آخر ، لن يظل ملتبسا بشكل كبير ونحن نبحث عن معان محيلة عليه داخل المتن السردي ، هذا التجسير الذي اعتاد جمال قيس أن يتعمد دسه داخل نصوصه ، ولا يتركه أبدا متاحا لمن تلصص عليه ، ولعل في عشق الكاتب دون غيره لنقط الحذف بشكل ملفت ، حسب زعمي المتواضع، جعل منه ساردا عليما – ملتبسا ، ونحن نعلم أن الحذف يقول ما لا تقوله الحروف طبعاً في دلالتها المادية وتشكلها الاتفاقي. إنه تجسير على ضربين حتما : بين المعاني المتناثرة شظايا بين ظلال الحروف والمتلقي الذي وجب عليه أن يكون حذقا حصيفا حتى يعيد انتاج النص ، فيعيد بذلك الحياة إلى حروفه ، ومن ثم يعيد كتابتها ، وتجسير آخر تمترس في وسط النص – السرة ، ليكشف عن بغية الكاتب التي حاول عن قصد وسبق اصرار أدبي يحسب للكاتب ، أن يدسها هذا الدس العجيب ، ليصف امرأة ممشوقة ، جميلة العينين بريقا ، عانت العوق ربما لحادث قريب ، وإذا ربط القارئ بين هذه السيدة ، التي قد تعتبر متسيدة في النص – وهيهات لها التسيد – و نظافتها وسط محيط القذارة المادي والمعنوي ، لاكتمل التمويه واستوت التعمية. صحيح أن هذا الثالوث : القذارة / النظافة / المادي والمعنوي ، قادر على أن يلملم بعضا من شعث النص وتشعبه الذي قصده الكاتب ليجعله عصيا على التلقي التلقائي ، غير أن الجسر الثاني الذي يعبر عليه الكاتب ، عبور أثير واختيار ، في كل أيامه حتى صار ديدنا ونهجا ، والنهج أيضاً في اللغة شارع عبور ، هو جسر أيضاً للوصول إلى النص يقول الكاتب ( يومية له،،كانت أقدامه تجوس نفس الطرق في جولته ، ،،عبوره جسر ( الشهداء ) ،،ولايعرف لماذا يشعر بأنه جسر قصير ،،وحميم،،معبر كوني وكبسولة زمنية ،،في فضاء ذاكرته المثقوبة ،،لانه عندما يتوجه من الكرخ الى الرصافة. يدخل صميم بغداد القديمة،،نوع من الولوج بثقب لروحها ،،التي تستنجد وهي في نزعها الأخير ،،في قمة الجسر ،،يشخص منظر المنارات والقبب لمسجدي ) هذا الجسر الذي اعتاد المرور منه في عادة من عوائد الكتاب التي تصنع الاختلاف في يومياتهم ، كما تصنع النص في تناغم تام مع هيام وذوبان داخل ” اليومي ” ، جسر هذا ليس جسراً عاديا ، جسر الشهداء ، لقد قال إنه لا يعرف لم يشعر أنه قصير ، والقصر كلمة حمالة أوجه ، وقادرة على التناسل بشكل كبير جداً ، خلافا للحميمية التي وسم بها الجسر فهي لا تحتمل التعدد ولا التشتت ، إنها العاطفة والهوى ذاك الذي يلاصق ولا يكاد يفارق ، ويتعاظم الوصف ، وتتعملق معه قامة الجسر وأهمية عبوره لبلوغ النص – المشروع القيسي ليصرح السارد الذي هنا تخلى عن علمه – جوازا طبعا – ولم يعد ساردا عليمه ، اذ يصرح ولا يلمح فيصف الجسر بالمعبر ، وأي معبر هذا ؟ إنه معبر كوني وكبسولة زمنية في فضاء ذاكرته المثقوبة.
ولعل في وسمه بالمعبر الكوني والامتداد الزمني والقصر والحميمية ما يجعله حقا بؤرة للنص ، لتشكل هذه الصفات المتلاحقة والمتعاظمة أثافي مرجل ، قمينة بجعله ينضج على فحم عراقي رصافي التشكل ، فعبر هذا الجسر الكوني ” جسر الشهداء ” يعبر كل الكون لبلوغ الطرف الآخر – المرتجى سواء كان المقصد إدراك الجنان أو مواجهة القذارة بصنفيها المادي والمعنوي ، وبهذا المعنى تصير الرصافة منطلقا وجسر الشهداء معبرا لمواجهة القذارة المادية والمعنوية غاية.
ويستمر هذا السرد الذي يشكل محور النص – الكاتب في غياب مخدوم عن السيدة التي تبحث عن توازن مفقود لتستقيم في مشيتها رغم الحوج والعوق ، وفي الحقيقة ليس غيابا أبدا ، بل أن هناك تواز وتماثل يخدم الغاية ذاتها ، سيأتي أوان تباينه ربما في فرصة لاحقة.
ان حضور الذاكرة المثقوبة التي تحتاج رتقا ، ومزيجها القصدي مع بغداد القديمة لفظا ، وهذا التكثيف المضغوط لما هو تاريخي -ثقافي باستعراض الذبح التتاري والتلصص ، وما يحيل عليه حضور الكرخ والقباب والجوامع ، والرشيد من خليط الدين بالدنيا ، في جعبة تاريخ عربي فيه عبق من عراق ولى ، وفيه أيضاً كثير من المآسي التي تختلط بالكيد تارة والدسائس والتمترس بعيداً عن كل ما هو وحدوي انساني وثقافي راقي ، ولعل في قفزه إلى ابي حيان التوحيدي والجاحظ وربطهما بالعتالة يشكل لفتة إلى الذهنية العربية التي يمهد لوسمها وسما دائما ولصيقا ولعله يصلح أن يكون شعاراً لمشروع الكاتب ، بعد أن أعلن صراحة رفضه للحاضر ، و ربط هذه العقلية بسيادة العقد النفسية ، إلا أن اليافطة التي يود الكاتب غرسها كانت واضحة لا غبار عليها ولم تأت هكذا عبر المتن مدسوسة بل وضعت بين مزذوجين حتى يسهل التقاطها من غير تفطن ( كل شعوبنا عبارة عن ” بالة ” – الصناديق التي في رؤسنا لا تحتوي على غير الهراء التاريخي المستهلك ) ،،،
وكأني به يعيد التفكير فيما قاله سابقا ، إنه دعوة صريحة إلى اعادة النظر في هذه العقلية التي تعاقر التاريخ معاقرة جوفاء وتعيش على امجاد انتهت وتولت وتتقاعس عن الفعل ، لتعتاش على ورد محفوظ وواقع مهزوم مأزوم ، وإن تكلمت بحرية بدون مواربة في زقاقات الهامش .
هي العقلية نفسها التي ارتادت مقاه فارغة ،تبكي بقايا حب مزعومة وأمجاد مردومة . وهاهو العربي يستكمل الاستمناء المنهجي على رصيف الأسطورة ليجدد حبه سيراً على منوال من سبقوه غير أنهم تغنوا بوداع هريرة الأعشى في جلسات خمر ولا أمر ، وتشبب هو في محبوبته بكاء على نغمات أم كلثوم في شوارع بابل .
ونحن نستحضر ما فات ، بالله عليكم ماذا تبقى من امرأة وسمت برشاقة واعتدال مفقود أهلها لأن تكون عارضة أزياء ، في عينيها بريق إلا نظافة وسط قذارة معنوية ومادية أفقدتها مشية باعتدال وتواصلا بكلام ، إلا أن تكون عزيزة قوم ذلت ؟

…….. نقط الحذف مشيا على نهج الكاتب الذي اتخذها نهجا في مشروعه السردي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد