الرائدة في صحافة الموبايل

من شعر المعارضة إلى دلالات التقابل في ديوان “على النهج”.. قصيدة كعب ابن زهير نموذجا لاسماعيل زويريق

جامع هرباط

1. مداخل تقابلية
1_تقديم
يعد الاشتغال على التأويل التقابلي من أبرز المداخل المنهجية في مجال تحليل النصوص والخطابات، ومن خاصية هذه المنهجية قدرتها الجمع بين التنظير والتطبيق، ولذلك اهتم بها الدارسون اليوم، واتخذوها طريقا لاستبصار مضان النصوص، والتأويل التقابلي، كما يقول أهم المنظرين له محمد بازي، يعتبر مشروعا متعدد الواجهات والمداخل والأدوات ، ويجد فيه المتلقي عمقا في هجرة دلائل معرفية، تمتاح من القديم كما الحديث، وجوهرها متَّصِلٌ ومَوصولٌ بحقول معرفية متجاورة، ولذلك سأحاول توظيف بعض أهم المفاهيم الإجرائية والنقدية التي تمكننا من مقاربة هذا العمل الشعري الضخم، والممتد طولا في تاريخ الشعر العربي، بشتى عصوره، محاولا كشف بعض المنظورات الخارجية والداخلية قصد سبر أغوار متن “على النهج”

2_تناظرية التعريف بمصطلح المعارضة:
إذا توقفنا عند مصطلح المعارضة، نجده يندرج ضمن ما جاء في الدراسات النقدية قديما، كما يرتبط مدلوله الفني، بمدلوله اللغوي ارتباطًا وثيقًا، مما يعزز أهمية “المداخل اللغوية في معرفة بعض الأسس التي تنبني عليها صناعة النصوص” ، ولقد وردت مادة (عَرَضَ) في المعاجم العربية للدلالة على عدد من المعاني لهذه الكلمة وتفرعاتها، غير أن ألصقها بالمدلول الفني وأقربها إليه ما يفيد المقابلة والمباراة والمشابهة والمحاكاة.
جاء في لسان العرب تحت مادة (عرض): “عارض الشيء بالشيء معارضة أي قابله، وعارضت كتابي بكتابه، أي قابلته، وفلان يعارضني أي يباريني” . وقال الفيروز أبادي في القاموس: عارض الطريق: جانبه وعدل عنه وسار حياله، والكتاب قابله. وفلانًا بمثل صنيعه: آتى إليه مثل ما أتى، ومنه المعارضة ؛ ولاشك أن الشعر العربي يعتمد على أسس ثلاث: المحاكاة والمعارضة والتقليد، خاصة مع رواد البعث والإحياء، وسنحاول دعم هذه المصلحات بمفهوم التقابل.
3_الاستعمال القديم الموسع للمعارضة
وظف النقد القديم كلمة معارضة للدلالة على المجاراة والمحاكاة في الشعر والنثر على حد سواء.
وفي العصور المتأخرة ضاق مدلول هذا المصطلح حتى اقتصر على المحاكاة في الشعر فقط، واختلفت الآراء ـ بعد ذلك ـ في تحديد المفهوم الفني له، فوقع الاختلاف بين الباحثين المعاصرين فيما يدخل ومالا يدخل في باب المعارضات. ولعل أقرب مفهوم فني للمعارضة هو: أن توافق القصيدة المتأخرة القصيدة المتقدمة في وزنها وقافيتها وحركة روّيها، وأن يكون الغرض الشعري واحدًا أو متماثلاً، بحيث تكون القصيدة المتأخرة صدى واضحًا للقصيدة المتقدمة. وهذه معارضة صريحة. أما ما عدا ذلك من القصائد التي فقدت أحد هذه العناصر فهي معارضات غير صريحة.
II. الأفق التقابلي في الديوان
1_ بنية النص العليا
كما هو معلوم يندرج هذا العمل ضمن جنس الشعر، وتحديدا الشعر العربي القديم، الذي يتقابل ضمنيا مع الشعر الحديث، وقد يلاحظ المتلقي للشعر العربي القديم مدى عمقه وتجذره في أصوله وأغراضه وأضربه، ومدى امتلاكه لتحقّقات مرجعية تخص الشكل والمضمون، كما الأحداث والأفعال والبطولات والمواقف الذاتية والجماعية، ومواقف أخرى تخص الإنسان تجاه الإنسان والمجتمع والكون.
إذ لا يمكن الحديث في هذا الصدد عن ديوان “على النهج” إلا في إطار الشعر العربي، فمن المفارقات الإيجابية التي تحسب لهذا العمل الإبداعي، هو قدرته على تشكيل خريطة شعرية موسعة، شملت تقريبا أغلب المراحل التي مرّ منها شعرنا العربي، منذ العصر الجاهلي حتى اليوم، وهذه خاصية تُلْهم للمعَارض بعد نظر، وتمده بالقدرة على الإبحار الصَّعب في مراكب شعر المعارضة وفي أزمنة متفاوتة ومتقابلة. ومن هنا فالعمل يندرج ضمن بنية نصية عليا عميقة في الموروث الشعري العربي وبأغلب مكوناته ومراحله. فما هي أسس التقابل في ديوان على النهج؟
2_أُسّ التقابل في ديوان “على النهج”
تترتب الفكرة الأساسية لنظرية التأويل التقابلي على أنها تنبني بالأساس وفق منطلقات كونية وكأنها، مسلمات موجودة سلفا، بحيث يُنْظر إلى الكون على أساس تقابلي، مما يجعلنا نفترض أن “النص كون لغوي متقابل” ؛ وقد جاءت هذه الرؤيا في معرض بلورة المفاهيم التي تُعرِّف النص، والأكيدُ أن مقاربة الديوان من هذه الزاوية سيكون مرفوقا بمفهوم التقابل، وبالاعتماد على مفهوم التساند، وعلى التأويل، ذلك أن كلَّ بنية لغوية إلا وتكمن وراءها خطاطة تقابلية غير ملحوظة، وإذا أمكن أن نقدم بعض التعاريف الاعتيادية للنص، كما جاءت في النقد الحديث، استنادا إلى طبيعته وخصوصيته الفنية، فقد أمكن التوقف عند عدة نصوص، لكن ما الجامع بين هذه النصوص؟ وكيف أمكن أن نقدم تعريفا لنوع النص؟ يرى بعض الباحثين أن تحديد نوع النص الأدبي يقع بإحدى طريقتين:” إما بالرجوع إلى المجموعة التي ينتمي إليها فيكون الدارس قد نُظر إليه من حيث هو شبكة من العلاقات تربطه بغيره من النصوص التي تشبهه شكلا ومضموناً؛ وإما بالرجوع إلى بنيته الداخلية وتحليلها للوقوف على المقومات والميزات التي تشكل خصوصية الكتابة فيه إذا كان النص يتحدد وفق هذه المعايير فلأن مرجعية الأنواع الأدبية تظل قوية وحاضرة باستمرار خصوصا إذا اعتبر النص بنية، أو شبكة علاقات، علاوة على ربط النص بالواقع الذي ينتجه” ، وعلى هذا الأساس فديوان على النهج، يتقابل أولا: مع نوع أدبي له مميزاته الداخلية باعتباره جنسا أدبيا محددا، ثانيا: تقابله مع نوع خاص من الشعر، ظهر في الأدب العربي لاعتبارات عدة، ألا وهو شعر المعارضة، من هذا الباب يدخل ديوان الشاعر في شبكة من العلاقات، وضمن بنية عليا تربطه كما أسلف الذكر بغيره من النصوص التي تشبهه شكلا ومضمونا، مع اختلاف أزمنة الإنتاج والتلقي، وهذا ما يشكل الأس التقابلي لهذا العمل.
فما هي أوج التقابل في قصيدة بانت سعاد للشاعر إسماعيل زويريق؟ وقبل ذلك نود التوقف عند:
1_تقابل النصوص الموازية
يتضمن هذا العمل على مستوى النصوص الموازية ما يلي:
بخصوص الجزء الأول، يتضمن كلمة شكر، ثم الإهداء، بعدها مقدمة غيرية للدكتور محمد زهير، في الجزء الثالث، نجد مقدمة ذاتية، متبوعة بكلمة شكر، ثم توطئة، وفي الجزء الخامس نجد إهداء إلى الدكتور عز الدين المعيار، رئيس المجلس العلمي لمدينة مراكش، كما أن يتضمن مجموعة من المقدمات، جاءت على الشكل التالي:

  • كلمة عابرة.
  • مقدمة الجزء الخامس.
  • المقدمة الثالثة: 1 المجموعات الشعرية في المدائح النبوية.
  • أصحاب الدواوين الشعرية في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم.
  • المطولات في الشعر العربي “رجع على بدء”
  • أصحاب المطولات.
    يتضح كما هو وارد في دراسات العتبات بأن ” المقدمة عتبة لقراءة النص، ونص موازٍ، بل نص مقابل، لأن التقابل أو التواجه أعم من التوازي، والتوازي نوع من التقابل؛ في الهندسة استقَامَةُ خطَّين مع عدم التقائهما في أي نقطة” كما أن ” التقابل بين النص والمقدمة تقابل تفاعلي تأويلي” يضمن قراءة النص على ضوء المقدمة، وقراءة المقدمة على ضوء النص، فكل منهما مكمل للآخر يضيء جوانبه، وغالبا ما تكون المقدمات موضحة لاستراتيجيات الكتابة” .
    إن قارئ خطاب الشاعر إسماعيل زويريق يجد فيه، جملة من المقدمات، والتي قد تبتعد عن بناء النص وشكله الفني باعتباره بنية بالمفهوم الحديث، غير أنها تحضر بطريقة ما لمساندة ودعم الفهم والتأويل، وهذه خاصيات المقدمات في إطار الدرس التقابلي على اعتبار أنها تمثل “سجلات السياق” أو دوائر النص الكبرى ومن أبرزها، كما جاءت في العمل المدروس:
    1- المناسبات ومقامات الخطاب:
    وهي”مجموع الإشارات المختلفة التي يُضمِّنها الشارح خطابه، لتحديد ارتباط النص بظرف محدد أو شخص أو أشخاص، والأسباب التي كانت وراء تشكل النص الشعري، وهي تُلقي مزيدا من الضوء على أجوائِه وتساعد على تمثل أفضل له ” ، ومثال ذلك، ذكره لعديد من المناسبات التي دفعته لنظم شعر المعارضة في موضوع ما، ونستحضر هنا (الدالية في الرد على من أساء إلى الرسول برسوماته الكاريكاتورية) ، ثم تفصيله الكلام في مقدمة الجزء الثالث ، ثم مخالفته للمُعْتَادِ في الإهداء النمطي في الشعر، الى إهداء تواعدي، ويبدو ذلك في قوله: (إلى تيري جُونْزْ القَسُّ الذي أراد أن يحرق القرآن)، كذلك في قصيدة (سوف أسقيك مهينا) جاء في إهدائها:” إلى ذلك الذي تكلم في حبيبه رسول الله أم المؤمنين عائشة”)، ولا نحسب الشاعر إسماعيل زيوريق إلا سَائرا على نهج الأقدمين، وفي كل ذلك توجيهٌ لمقاصد الشاعر واستدراج نحو فهم معاني العمل” ، ومن الأمثلة الدالة على ذلك، نمثل، أولا؛ بمقدمة الدكتور محمد زهير، فمن جملة مقاصدها، أنها مقدمة نقدية تاريخية أدبية لغوية وسياقية، يقول المقدِّم: “هكذا تكون المعارضة حجة للشاعر أو عليه، إذ تدل على مدى اقتداره، وعلى طبيعة علاقته النفسية والفكرية والأدبية بالمتن المعارَض، وعلى الأساس الذي انبنت عليه معارضته” ثم يقول: “والشاعر بمدخره اللغوي ومؤهلاته الأدبية، يبني صوره وتراكيبه الشعرية الخاصة، أي يبني بلاغة الشعر، مضمنا إياها موَاجده وتخيلاته وأفكاره ورؤاه، النابضة بروحه الشعري، والمُنْطَبِعَةُ بملمحِه وانتحائه بين نظرائه” ، وهذا حال ديوان على النهج، لأن صاحبه استبطن عوالم شعرية متداخلة، غير أن رؤيته للكون والحياة لم تكن حبيس الشعر العربي القديم في أغراضه، بل شاعرُ نظرة وموقف، وشاعر رؤية مجدِّدة تتجه نحو المستقبل، إنه شاعر نضال ومقاومة، والدليل على ذلك انخراطه في قضايا عصره، ومن عمق هذا التداول جاءنا بتجديد مميز على مستوى شعر المعارضة. كما أمكن تصنيفه ضمن شعراء البعث والإحياء، دون منازع، مع قدرته الفائقة على التجديد وربط النص بواقعه الاجتماعي الراهن.
    لقد جاء الشاعر في ديوانه بنصوص موازية مباشرة، شارحا مقاصده ومسالكه، نجد في الصفحة ، وتحت عنوان (كلمة)، قوله” شدّ ما يثلج الصدر، وأنا آتي على إنهاء هذه الأضمومة من الأشذاء الفائحة في مدح خير الورى. مشياً على هدى من سبقوا، موازنا ما دبجته قرائحهم وما أملته أقلامهم. علما أن الفضل ليس إلا للمتقدم. وأني لست بما أتيت إلا مثل متعلم. وقد آليت ألا أرجع إلى الأصول خوفا من أن ينزعني ما اشتملت عليه من دلائل الانبهار، ويأخذني إلى مجارتها بالإعادة والتكرار. أنفت ورود حِيَاضَها، وملت إلى هذا الصواب بعيدا عن أفياء غِيَاضِهَا، حتى لا أكون مقلِّدا. لقد اخترت أن أنحو ما يُمَكن قصائدي من أن تحظى بما يُبعدها عن أترابها، وينأى بها عن ظلال نظيراتها. وإن كنت لا أدعي السبق والانفراد” وهذا ما يؤكده الدكتور محمد زهير” وأحسب أن الشاعر إسماعيل زويريق إنما جعل وُكْدَهُ، في معارضاته التي يضمها هذا الديوان، أن يتميز في معالجة المشترك، (نسطر تحت هذه الكلمة) ويختلف في بناء تفاصيله، بما انتحى من زاوية نظر، وابتدع من صور وأساليب بلاغية، وولَّد من معان تفصيلية، أو تصرف فيها بدراية شاعر خصب القريحة، يقتحم غمار معارضة متون مرموقة بوثوق، فإذا كان للمعارضة صعوبتها في حد ذاتها، فإنها لتزداد صعوبة في حالة معارضة متون بلغت من الاشتهار مداه”
    2- تقابل التخالف
    ويبدو ذلك جليا في مخالفة المعارض لقصيدة كعب لأغلب الكلمات الواردة في أضرب القصيدة، باستثناء كلمتين (معلول) و(مقبول). وفي هذا المنحى “تقوم صناعة النص ذهنيا على آليتي الإثبات والمسح، أو الاحتفاظ والترك، أي الاحتفاظ بما يتلاءم مع نوايا المتكلم ومقاصده” .بالإضافة إلى ذلك فالشاعر حاول القيام بـ:
  • التجديد في تناول المعاني الشعرية.
  • تجاوز المتون الأصلية في عدد أبياتها.
  • تجاوز الأغراض الشعرية إلى أغراض تخص قضايا معاصرة.
    3- التقابل الزمني وامتدادته
    نود الإشارة إلى كيف أن الشاعر عارض مجموعة من الشعراء الذين مدحوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبين ذلك في قوله” لم أكن أتوقع يوما، أني سأجاري من سبق من شعراء المديح النبوي، ماشيا على دربهم التي طرقتها أقلام الفطاحل، ووقف خجلا عن موازنتها يراعات الفحول الأوائل” ، فبالرغم من تواضع العلماء والشعراء الأنداد فالشاعر استطاع أن يسافر عبر الزمان مستذكرا ومعارضا ومستوعبا، وفاهما لمضامين الشعر الذي سبقه، ذاك الذي اختار أن ينسج على منواله، والدليل على ذلك أنه اتبع مسلكا مخالفا في شعر المعارضة وهو عدم مجاراة القصيدة كما هي في الأصل، ولذلك نفهم مغزى القَّسم الذي قطعه على نفسه ، وقد سبقت الإشارة إليه، مما يرفع من قيمة التحدي الذي يجعل الإبحار صعبا ووعرا في دروب المعارضة الشعرية.
    وقد كانت المعارضات في تراث الشعر العربي، توحي بقدرٍ من فحولة الشاعر المتأخر، حين يُجيد في معارضة قصيدة متقدمة، اكتسبت شهرة بقصيدة تجِري في مضمارها، وتُحقق لنفسها قدرًا موازيًا من الشهرة والقَّبُول، لكن هذا النمط من الخطاب الشعري اختفى، أو كاد في الشعر المعاصر؛ لأن خصوصية التجربة وتباينها ـ بين شاعر وآخر في القصيدة الحديثة ـ أصبحت هي المعيار الحقيقي لأصالة الشاعر وقدرته على الإبداع.
    بعض التقابلات الزمنية في قصيدة كعب بن مالك
    تجعلنا القراءة التقابلية للنص المدروس، أمام لوحات شعرية متناظرة على أصعدة عدة، ومما نقف عنده في البداية، تقابل الدهر مع ذات الشاعر في البيت السابع.
    كذلك تقابل الليل والنهار وتقابلهما مع ألم وهموم الشاعر في البيت التاسع، وتناظر الليل مع النهار دلالة على استمرار المعاناة، كاستمرار تعاقب الليل والنهار، كذلك تقابل اليوم مع ذات الشاعر في البيت الثاني عشر، النتيجة تقابل السُّهد مع نفسيته.
    نجد كذلك: البيت الرابع عشر، ما نامت العين، والبيت الخامس عشر، وكلما طالت الأيام، أحيا أسيرك، البيب الثامن عشر، فلست أنسى وقد أمسى يذكرني.
    ومن التقابلات التناصية للزمن في هذه المقدمة الغزلية، نتوقف عند البيت الشعري الثاني والثلاثون، وما فيه من دلالات موسعة حول تناظر الذات مع الزمان، وتقابل التعارض بين الذوات، وما فيه من استتباعات لمقاصد أخرى، يقول الشاعر :
    أبعدَ أن جاوزَ الستين ملْتِ، وما يغري الفؤادَ صبوحُ الوجه مجدول
    فهذا البيت يتناص مع تجارب شعرية أخرى في الشعر العربي القديم، نظرا للتحولات الفيزيولوجية الجسمية التي يحدثها الدهر باعتباره زمانا فاعلا في الإنسان، وهذا ما تترجمه الأبيات الشعرية من البيت 32 إلى البيت43.
    كما يتناظر البيت 44 تناظر موسعا، لضمِّه جل المعاني السابقة التي عبر عنها الشاعر، وبقوة حجاجية، أولها عامل الكبر نتيجة فعل الزمان، وثانيها، شوقه إلى شخص أعلى مرتبة ومكانة، ، فالزمان وحده هنا لا يلخَّصُ في الصد والإعراض من جهة المخاطَب، فشوق الشاعر إلى محبوبه سببٌ آخر أقوى وأقرب إلى نفسه، والبيت الذي نود أن نستحضره ليتقابل مع البيت المذكور، بل يمكننا أن نقف هنا عند تقابل نصي على مستوى المقدمة الغزلية بين شاعرين، بين الشاعر إسماعيل زويرق وبين قول الكميت ، وهو أيضا تقابل زماني:
    طربت شوقا وما شوقا إلى البيض أطرب ولا لــــعبا أذو الشـــيب يلعب
    ولم يُلـــــــهِنِي دارٌ ولا رَســـــــــمُ مَنزِلٍ ولم يَتَطَرَّبنِي بَنــــانٌ مُخَضَّبُ
    وَلكِن إِلى أهــــلِ الفَضَـــائِلِ والــــــنُّهَى وَخَيرِ بَنِي حَوَّاءَ والخَيرُ يُطلَبُ
    فهذه الأبيات ترسم لنا تمثلا ذهنيا بين الأجواء النفسية للشعراء قديما وحديثا.

كذلك من المفارقات الزمنية التي تصورها هذه المعارضة أنها تضع المتلقي بين مرحلتين من تاريخ الأمة، مرحلة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمرحلة الراهنة التي يتحدث عنها الشاعر وما فيها من تحولات سلبية غير راض عنها، وهذا ما يصوره الشاعر بدء من البيت 71 إلى البيت 86.
فالشاعر بهذا التصوير لحال الأمة يجعنا نستحضر في أذهنا زمان الرسول وصلاح الأمة وأحوال الإسلام والمسلمين، وبهذا الشكل يتقابل زمنين متعارضين، زمان الصلاح والقوة والعزة وزمان الطلاح والضعف والذلة، وهذا يبرزه الشاعر في قوله:
ما كان لليث يوما أن ينام على ذلّ إذا استبيح الغاب والغيل
تقابل الأمكنة
يتحقق هذا النوع من التقابل حينما ترد في النص فضاءات متعددة على اعتبار أنها متنوعة ومختلفة، كما يجب أن ينظر إليها باعتبارها متناظرة وقائمة على التقابل، ومن الأمكنة المتقابلة في النص نتوقف تقابل عدد من الأمكنة، كما في البيت الثاني درعة… النيل البيت الثامن،… سبتة تتقابل مع المحتل حيث التعبير عن الشوق إلى المكان.
نجد في البيت التاسع والأربعون، أنا بمراكش الحمراء، تترادف مع أغراس النخيل، وهذه الأمكنة تتقابل مع كلمة الزهراء… التعبير عن الشوق، الواردة في البيت الرابع والخمسون يا راحلين إلى الزهراء، ووما تدل عليه هذه التقابلات التي تخص المكان مدى تعلق قلب الشاعر بالمدينة المنورة.

تقابل التحاور
نقف أولا عند تقابل التحاور الناتج عن تحاور قصيدة كعب بن زهير مع قصيدة الشاعر إسماعيل زوريق، وهو تقابل إبداعي ناتج عن التناص الخارجي بين النصين، عبر عناصر أخرى مساندة كالتقليد والمحاكاة.
يتولد هذا التقابل الحواري حينما يكون” حضور حوار في نص سواء أكان حوارا ذاتيا (المونولوج) أو حوارا ثنائيا أو جماعياّ”
بتوظيف ضمير المتكلم العائد على الذات نجد الشاعر يوجه خطابا إلى ذاته وهذا ما نتوقف عنده في مقدمة القصيدة، خاصة في الأبيات 9_10_11_12_13_14 وهذا التوظيف تعبير صريح لمعاناة الشاعر مع صروف الدهر… والشوق إلى المكان والشخص المخاطب كما في البيت 16 إلى البيت 20
أحيا أسيرك. لا الأقدار تشفق أو يصُدني عنك إعراضٌ وتمتيل
وتزداد معاناة الشاعر حينما يعبر وبعمق عن ما يقاسيه من مخاطبه الصدُّ، مما يجعل الرغبة في تحقيق التحاور ضيئلة حينما يعترف الشاعر بما ألحقه به الدهر من تبديل الأحوال خاصة الفيزيولوجية، يقول الشاعر:
تلومني في حديث جاء مختصرا ومقولي عن رزين الـردّ مشكول
أبعدَ أن جاوز الستين ملتِ، وما يغري الفؤاد صبوحُ الوجه مجدول
فلا الوضيئة تغريني، ولا شغُفت بي النساءُ، غوانيها العــــــطابيل
ولكي يتخلص الشاعر من كل معاناته استثمر طريقة الأقدمين في حسن التخلص والانتقال من موضوع التشبيب إلى موضوع الشوق إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم يقول الشاعر:
إنّ الذي عنكِ شدتني شمائله مكرَّمٌ بذرى العلياء منزول
وفي تجاوب مع هذا الكلام، فمخاطب الشاعر لم يتقبله بالرضى، ومما يؤكد ذلك، قولها على لسان الشاعر:
وأرسلتْ آهة حرَّى مكسَّرة كأنها في شغاف القلب إزميل
لينتقل بنا الشاعر بعد الذي تقدم إلى غرضه الرئيس ألا وهو مدح الرسول والتعبير عن شوقه إليها، ليدخل بنا إلى تحاور آخر معه، معبرا عن شوقه في البيت وعن عجزه بلوغ المرام ومدحه وتبيان مكانته كما في البيت 63 و64… وإخباره بأحوال الناس التي لا تسر الشاعر كما في البيت 69 و70.
التقابل الاستعاري المجازي
من أمرها فــــــــي غفلة نكرت عن نصرة الدين ألهتهم أشاغيــــل
غطى الوجودُ، فلا أنواره وهـــج لا الشمس شمس ولا القنديل قنديل؟
إن الطليقة قد أضحت بــلا رسن وما وراء الذرى إلا الأراجــــيل
هذا القطيع قد استخذى، ونام على الإذلال رعيانه واستذاب الـــيل
ما كان لليث يوما أن ينام عـــلى ذلٍّ إذا ما استبيح الغاب والغيلُ
أول ما نقف عنده في هذه الأبيات هو تقابل الآحاد، بحيث تتقابل الشمس مع شمس وتقابل القنديل مع قنديل، وبهذا يتقابل المعنى ومعنى المعنى، فهذه الأبيات مبنية على الرمزية التي تحتاج إلى تأويل من القارئ، لأن حاصل الأبيات تضمنها المجاز والاستعارة، فإذا كانت الشمس الأولى حقيقية كما في الواقع فإن الشمس الثانية تمثل المجاز، لأجل إظهار معنى حقيقي واقعي ألا وهو حال الأمة وما يسود فيها من ظلام وجهل، ونفس الشيء يقال عن القنديل الذي يرمز بدور إلى النور والضياء، ومن هنا سعى الشاعر إلى خلق تقابل مجازي بين كلمتين،” بمعنى، ما حسب السيوطي ” إن هناك معنى خفيا وجب تحقيقه وبناؤه من خلال مقابلة الظاهر” السيوطي الاتقان، ويظهر التقابل بوضوح حينما يتناظر الوجود مع الظلام، ومن بين ما نقف عنده كذلك تقابل الطليقة مع الابتعاد والتباعد، لأنها غير مقيدة بحبل فهي بلا رسن، ومن التقابلات الموسعة في هذا المقطع الشعري نقف عند (الشمس/ الظلام) القنديل/الظلام) الشمس/ النور) القنديل/ النور) الطليقة/ الرسن) (الطليقة/ المقيدة) (الذَّرَى/ الأراجيل) كما نجد تقابلا محوريا بين ( الطليقة/ القطيع) (الليث/ينام) (استذأب/ الفيل) يزداد العالم الشعر في هذا المقطع عمقا وراء لأنه كما قلنا مبني على لغة رمزية تحتاج إلى تأويل وإلى قارئ يفك شفرات النص المتقابلة، ولأن النص بأسره لم يقل كل شيء فإنه ينتظر من يبني معانيه من جديد، خاصة وأن البنية التقابلية لم تتأسس على بيت واحد، بل أمكن أن تمتد إلى عوالم أخرى من النص.
التأويلات التقابلية السياقية الموسعة
ما القصد بها؟
يقول محمد بازي” نقصد بالتأويلات التقابلية الموسعة كل الأشكال الممكنة، التي تتجاوز الكلمة والجملة، وتوسع أفق الإدراك والتأويل، ليشمل مستويات أخرى”، ومن بين المحافل التقابلية الموجودة في معارضة الشاعر للامية كعب بن زهير ما يلي:
1- تقابل النص وسياقه:
كما هو وارد المعارضات الشعرية يرجع تاريخ ابداعها إلى فترة صدر الا سلام مثل (قصيدة البردة ) لكعب بن زهير بن ابي سلمى في مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم والتي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم اثرها لم يفد مكبول
وأما السياق الذي أنتج النص فهو وارد في كتب التاريخ والسير،…. ولسنا في واقع الأمر نتوقف فقط عند السياق التاريخي في تتبع لظروف إنتاج القصيدة بل يمكن أن تشمل بعض التقابلات الأخرى خاصة النفسية والاجتماعية، وفي هذا يطول الكلام، فهجاء كعب للرسول يتقابل بعدما بلغ الخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، التهديد والوعيد، وهنا يتناظر الجانب النفسي مع الخوف وعدم الارتياح، النتيجة هجاء الرسول = الموت، ويتعزز هذا السياق بالمعطى الاجتماعي على أن الرسول كان يقتل ويؤذي من يهجوه، كقتله لشعراء من قريش ومنهم من فروا كما ورد في السنة النبوية.
من جهة أخرى تتقابل نجاة الشاعر بمدحه للرسول، ومن ثمة يستعيد الاستقرار النفسي والاجتماعي، النتيجة تساوي النجاة والحياة والارتياح والإسلام.

2- تقابل النظائر النصية
نرى أن قصيدة كعب بن زهير، تتناظر وتتقاطع مع نصوص شعرية متنوعة ومتمفصلة في تاريخ الأدب العربي عامة وفي تاريخ الشعر خاصة.
3- تقابل النص والعنوان
” إنه تقابل نص مصغر مع عنوان مكبر، وتقابل المفتاح مع الباب، وتقابل البنية المعنوية المكتفة والمختزلة مع بنية معنوية موسعة ومفصلة، وتقابل الوجه والمرآة؛ فالعنوان وجه واضح المعالم في مرآة النص. وقد يكون تقابلا مضبّبا، لا وجه له في نصه ولا في صاحبه، لا بسا ضباب الغموض. وقد يأتي كل منهما مقابلا منزاحا عن الآخر معرضا عنه، سائرا في اتجاه مخالف” .
يقول الدكتور محمد زهير” على هذا السنن سار الشاعر إسماعيل زويريق، متخذا المعارضة تعلة للمضي على نهج تقاليد راسخة في أدبيات الشعر العربي عامة. ولذلك عنون ديوان معارضاته هذا بعنوان دال هو “على النهج”.
وفي الختام يمكن القول أن ديوان “على النهج” يقوم برمته على تصور تقابلي في المعنى والمبنى، لأن الشاعر اختار نصوصا محددة في تاريخ الشعر العربي فعارضها محاكيا إياها في الوزن والقافية، والموضوع، ولقد أبدع إلى حد ما وبلغة راقية ومعاصرة في توليد معان جديدة تتلاءم وانشغالات العصر الراهن. وعلى العموم فمستويات التقابل عديدة يمكن رصدها بدءا من العنوان إلى بقية النصوص الموازية المباشرة وغيرة المباشرة، مما يؤكد أن الأصل في العمل مبني على تصور تقابلي شمولي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد