الرائدة في صحافة الموبايل

جدلية الإنسان والبيئة

بقلم يونس فارس

منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض وهو في صراع مباشر مع البيئة وتحدياتها؛ ولكن، هل فعلا للمناخ أثر في طبائع الشعوب وللهواء تأثير على ألوان البشر كما قال الحتميون؟ أم أن الإنسان غير خاضع كليا لمؤثرات الطبيعة وضوابط البيئة؟

تعتبر البيئة من أهم القضايا الكبرى التي تشغل اهتمامات المجتمع الدولي ؛ نظرا للتغيرات التي يعرفها العالم من تطور اقتصادي و ديموغرافي وما لذلك من تبعات على البيئة والأنساق الايكولوجية ونضوب الموارد ، خاصة وأن النماذج التنموية الحالية لا تراعي هذه الجوانب وما تسببه من مشاكل ، فالعلاقة بين الإنسان والبيئة قديما إتصفت بالتوازن إلا أنها بدأت تضطرب في عصرنا الحالي، لذا بدأ أمر الاهتمام بالبيئة والمحافظة عليها يعد شيئا أساسيا ولا شك أن أي تهديد لها يشكل تهديدا لبقاء الإنسان .
فمنذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض ، وهو في صراع مباشر مع البيئة وما تحتويه من تحديات وصعوبات، فحاول التأقلم أكثر ، فتارة يسايرها، وتارة يحاول السيطرة عليها، وتارة أخرى يستسلم لها، و لتفسير هذه العلاقة بين الإنسان والبيئة ظهرت عدة نظريات واتجاهات فكرية _ حاولت تفسير هذه الرابطة التبادلية بين الانسان والطبيعة _ وعرفت بالنظريات البيئية
لكن قبل التطرق الى هذه النظريات التي تناولت علاقة الإنسان بالبيئة لابد أولا من تناول مفهوم البيئة ، إذ يستخدم في كثير من العلوم و المجالات المختلفة ويتغير تبعا للموضوع الذي يستخدم فيه و الغاية منه و حسب تخصص الباحث الذي يتناوله ، بالتالي يصعب تحديد مفهوم شامل وموحد له و تعددت تبعا لذلك التعاريف في هذا الشأن وهي كالآتي :

  • “فهي المحيط المادي الذي يعيش فيه الإنسان بما يشمل من ماء و هواء و كائنات حية و منشآت شيدها لإشباع حاجياته”
    *” أنها مجموع الظروف و العوامل الخارجية التي تعيش فيها الكائنات وتؤثر في العملية الحيوية التي تقوم بها”
  • كما يمكننا أن نعرفها أيضا “أنها تشمل كل ما يحيط بالإنسان يتأثر به ويؤثر فيه ولا يمارس حياته اليومية إلا ضمنه”.
    جغرافيا يمكن تعريف البيئة على حد تعبير محمد بلفقيه ” البيئة هو نسيج من التفاعلات المعقدة التي تحدث بين جميع مكونات المحيط الطبيعي من كائنات حية والتي تكون مايسمى الرابطة الحياتية ( انسان ،حيوان ،نبات …) وعناصر غير حية تكون ما يسمى بالمحيا ( التضاريس ،المناخ، الهواء …) كما يشمل هذا المفهوم البيئة المستحدثة من طرف الإنسان و تكون ما يسمى بإطار العيش .
    من خلال هذا التعريف فالبيئة تنقسم إلى قسمين بيئة طبيعية و تشمل كل المكونات الطبيعية الموجودة على كوكب الأرض ( هواء ، ماء ، تربة ، مصادر طاقة… ) بالإضافة إلى الكائنات الحية ثم بيئة مستحدثة وهي البيئة التي أحدتها الإنسان بفعل نشاطاته المختلفة الإقتصادية و العمرانية والبنية التحتية
    ان الإهتمام المتزايد في تفسير جدلية الانسان و البيئة برزت خلاله تلاث نظريات وهي :
    النظرية الحتمية : الفكرة الأساسية لهذه المدرسة ترتكز على ان البيئة هي المسيطرة على الإنسان بتسييره لا تخييره ودوره فيها دور سلبي بالخضوع و التقيد ، وأن للبيئة إسهام كبير في تشكل و نشأة الثقافة و القيم و النظم الاجتماعية وحتى الطباع و الأخلاق وأن الإختلافات القائمة بين المجتمعات البشرية مردها الى الإختلافات المتباينة في الظروف البيئية .
    فقد ظهرت أفكار وبوادر هذه المدرسة عند مفكري الإغريق نجد مثلا كل من هيبوقراط في كتابه “الجو و الماء و الأقاليم ” وأرسطو ضمن مؤلفه المشهور ” السياسة ” فيرى هيبوقراط ان هنالك اختلافات بين سكان الإقليم من أبرزها إختلاف الصفات الجسدية و النفسية واضعا مقارنة واضحة بين سكان الجبال والسهول ؛ إذ يقول بأن سكان الجبال يتميزون بالشجاعة و الإقدام مفسرا ذلك بالعوامل الطبيعية المعرضين لها مباشرة كالأمطار و الرياح ..الخ عكس سكان الأقاليم السهلية فهم يتصفون بنحافة القامة و الشقرة وفيهم طبيعة السيادة و الإمارة . أرسطو أيضا ركز على العلاقة بين المناخ وطبائع الشعوب و الإرتباط الموجود بين تأثير المناخ في سمات الأفراد ليعطي صورة على سكان أوروبا بأنهم يتصفون بالشجاعة لكن ينقصهم الذكاء و التفكير السليم ويتميزون بالحرية على غيرهم ، وعلى نقيضهم سكان آسيا فهم أذكياء وحكماء لكن ينقصهم الحماس و الجرأة مما جعلهم محكومين بغيرهم .
    كما يعتبر أيضا ابن خلدون من رواد الحتمية البيئية ، حيث سعى إلى تفسير أثر المناخ في طبائع الشعوب وتأثير الهواء على ألوان البشر ، وضرب مثلا على ذلك بشعوب السودان ووصفهم بالخفة و الطيش وكثرة الطرب و الفرح ، والسبب في ذلك على حد تعبير ابن خلدون أنه “استولى الحر على أمزجتهم وأصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم فتكون روحهم أشد حرا (…) ” .
    هذا بالنسبة للحتميين القدامى أما الحتمية الحديثة والتي يتزعمها الرحالة “فريديرك راتزل” الذي إهتم بدراسة العلاقة القائمة بين البيئة و الإنسان من خلال ثلاث محددات وهي كيفية توزيع السكان على سطح الأرض في اقاليم بيئية ، ثم كيفية تفسير هذا التوزيع تفسيرا بيئيا ، تالثا كيف تأثر البيئة على المجتمع بصفة عامة ؛ فقد حاول إبراز أهمية الإنسان كعنصر بيئي قوي وحتمية المؤثرات البيئية وأثرها على البشرية وتاريخ الإنسانية.
    عموما فهذه المدرسة تعتبر الإنسان مسير لا مخير وأن طباعه يتحدد انطلاقا من حتمية بيولوجية او جغرافية سيتسلم ويسلم بواقعه . إلا أنها لقيت عدة انتقادات من أهمها غلوها الشديد في تغليب الطبيعة على الإنسان ، و لا منطقيتها في تفسير تطور البشر واكتساب طبائعهم بحيث أن هناك مجموعة من العناصر تشترك في تكوين طبائع الناس ، بالإضافة إلى أن التاريخ أتبث تشابه حضارات الشعوب وسلوكياتهم رغم اختلاف بيئاتهم و مناخهم .
    المدرسة الإختيارية : نتيجة الإنتقادات الموجهة لمدرسة الحتمية البيئية ظهرت مدرسة موازية سميت بالمدرسة الإختيارية ، حاولت هذه المدرسة تفسير علاقة الإنسان بالبيئة بنظرة مخالفة لأفكار المدرسة الأولى . فترى أن الإنسان غير خاضع كليا لمؤثرات الطبيعة و ضوابط البيئة فهو قادر على التطوير و التغيير و التأقلم من خلال الإختيارات التي تمنحها له الطبيعة
    ويعتبر ” فيدال دي لابلاش” من رواد هذه المدرسة ، ويرى بأن للإنسان دور كبير في تعديل بيئته وتهيئتها وفقا لمتطلباته واحتياجاته واصفا إياها بأنها إنسانية وليست طبيعية ، لذا ينبغي دراستها على أساس تاريخي من خلال تحليل جهود الإنسان في علاقته مع البيئة عبر التاريخ
    نجد كذلك ‘ لوسيان فيفر ‘ واسحاق بومان من رواد هذه المدرسة فيريان بأن مظاهر البيئة كحقول الشعير مزارع الأرز والقطن … من فعل الانسان كذلك الصناعة التي ترتبط بحد كبير بتوفير المادة الخام في بيئتها والتي بدورها تتطلب توفير المهارات،
    هذه من بين الأدلة التي استندت إليها اصحاب هذه النظرية لتأييد نظريتهم بأن الإنسان باستطاعته ان يتحكم في البيئة كيف ما ياشاء .
    المدرسة التوافقية : نظرا للصراع المعرفي الذي دار بين المدرستين الحتمية و الإختيارية لابد من ظهور مدرسة تالثة تحاول التوفيق بين الآراء المختلفة ، لدى يطلق عليها بالنظرية التوافقية . هذه النظرية لا تؤمن بالحتمية المطلقة او الإمكانية المطلقة وإنما بدور الانسان و البيئة وتأثير كل منهما على الآخر بشكل متغير ، فتغلب على بعض البيئات تعاضم تأثير الطبيعة وسلبية تأثير الإنسان ويكون العكس في البيئات الأخرى ويعتمد أصحاب هذه النظرية في تفسيرها على تصنيف نوعية البيئة من ناحية ( سهلة – صعبة ) ونوعية الإنسان من ناحية اخرى (سلبي – ايجابي)
    ونجد المؤرخ الإنجليزي “ارنولد توينبى ” يحدد علاقة الإنسان بالبيئة انطلاقا من نوعية كل منهما :
    1 – إستجابة سلبية : تخلف الإنسان علميا وحضاريا مما يجعله غير قادر للإستفادة من بيئته
    2 _ إستجابة التأقلم : هناك نوع من التوافق بين الإنسان والبيئة مع سيطرة هذه الأخيرة فتمكنه مهاراته من التأقلم نسبيا مع ظروفها البيئية
    3_ إستجابة ايجابية : قدرة الإنسان في تطويع البيئة وفق حاجياته ورغباته حتى وإن كانت هذه البيئة صعبة فيتغلب عليها من خلال مهاراته الإيجابية
    4 _ إستجابة إبداعية : وهي أرقى الإستجابات على الإطلاق فالإنسان هنا يتجاوز تطويع البيئة الى الإستفادة منها في ابتكار أشياء تفيده في مجالات أخرى
    لقد استطاعت هذه المدرسة أن توفق في تفسير العلاقة بين الانسان و البيئة فهي لم تغلب الطبيعة على الإنسان كما لم تغلب هذا الأخير على البيئة ؛ بل حاولت قدر الإمكان التوفيق بين الموقفين فتفاعل الإنسان مع الطبيعة ليس بالضرورة خاضع لحتمية مطلقة او إمكانية مطلقة بل يتحدد وفق قدرة الإنسان على التكيف معها .
    عموما تشكل هذه المدارس أهم المدارس الكبرى المحددة للعلاقة بين البيئة و الإنسان . والجدير بالذكر أن الإنسان قد طور علاقته بالبيئة من خلال ما اكتسبه من علم وما أبدعه من معلومات فانقلب الميزان وأصبح هو المسيطر وأصبحت البيئة هي التي تعاني من مخاطر جمة ألحقها بها فتعالت الأصوات التي تنادي بضرورة حماية البيئة من جشع الإنسان وشره اتجاهها
    الهوامش
    ✓ هامش ساعد – سوسيولوجيا البيئة في ظل المدارس المفسرة والاتجاهات النظرية – ص 182-183-184-185-186-187-188-190 قسم علم الاجتماع جامعة باتنة- الجزائر
    ✓ حمداوي جميل _ من أجل تنمية مستديمة –الطبعة الأولى 2017 ص 71-72
    ✓ الحايك نور الدين _ محاضرات في وحدة البيئة والتنمية – جامعة محمد بن عبد الله كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس – فاس 2019_2020
    ✓ صفاء شريم _ العلاقة بين الإنسان والبيئة _ مجلة موضوع اخر تحديث للمنشور 21 يوليو 202
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد