الرائدة في صحافة الموبايل

عبدالله علي شبلي يكتب «الغواية »

قصة قصيرة

نزل الدرج مسرعاً وهو يرتدي منامته الصيفية الخفيفة المخططة ، غازل هواء الشارع المنعش أنفه ، كان يلاعب مفاتيحه بيده اليسرى ، بينما يمسك بيده اليمنى سيجارته المعتادة التي أدمنها منذ زمن طويل ، بل كانت سبباً في شجاراته المتوالية مع والده المرحوم في زمن مراهقته ، إنه الآن ينفث دخانها في تلذذ خرافي ، وهو يدندن مردداً نغمات أمّ كلثوم التي تصدح في سماعات أذنيه ” هل رأى الحب سكارى ” وهو نشوان فعلاً من فرط سكره وولهه بمذهبه ومعشوقته ، تلك التي تشرب نغماتها الكلاسيكية ممزوجة بلحظات حميمية عاشها مع عشيقات كثرٍ منذ زمن ولّى ولم يول ، يراه غيره وصمة عار تلاحقه، بينما يراه هو هوساً لا يستطيع الفكاك منه، أو حظوة لا ينالها غيره تثبت له اختلافه وتميّزه …

عبر الشارع الفسيح ولا شيء يشغله غير نشوة أو نزوة ، الكل مشغول بأمره، مسامير تُغرس في الرؤوس تحجب الاحساس بالزمان والمكان ، انهم يخبون على الأرصفة والطرقات، يمشون، يسرعون ولا يلتفتون، هنا حيث يتناثر الناس والأشياء والمحلات ، ويتنافس أهل الدنيا على الدنيا في نهم وكد وجد بالغ….
لمحها من بعيد وهي تتمايل في مشيتها بغنج آثم ،في كيد نسوي طافح ، تغلفه رغبة زليخية مشتعلة.
لم يعد يدرك ما يفعله أبداً ، فلا هم يشغله إلا هذا الآن، أعادته إلى سحره الأثير وتميزه القديم، أسقطته في حبائلها بسهولة بالغة ، فمضى منوماً بالحب والسكر وأشياء أخرى،فأشار إليها برأسه تبعته دون تردد. كان ضحيتها السابعة في ذلك السبت الربيعي الجميل!.

وهي تهم بمغادرة البيت في الطابق الخامس ، كانت زوجته قد وصلت على غير انتظار ، بعد أن رن هاتفها وهي بين أهلها يخبرها بوضع غير منتظر ، وإن كان موهبة عند أغلب الرجال. موهبته هو بالضبط، لكن الزوجة ظنتها قد اختفت منذ زمن ولى ولن تعود، غير أنها عادت وعن غير انتظار…

دخلت بيتها الذي بدا لها غريباً هذه المرة ، نتناً ومقرفاً ، كانت تزمجر وتزفر ، بينما كان هو يجلس مستريحاً فوق مقعده الجلدي، وهو يغازل شعر رأسه الحريري ، على يمين النافذة المطلة على شارع ” الألفة ” .
جرت حقيبتها الجلدية من أعلى خزانة الملابس ، وهي تصف الزوج بأقذع النعوت ، والبصاق يتطاير من بين أسنانها : ” أيها الأناني الفاشل ، تخونني مع عاهرة ”
“تبيعني من أجل ساقطة عند أول منعطف في طريق عام ”
“ظننت عهدك بالخيانات قد ولى، ما في القنافد أملس، الرجال كلهم سواء الخيانة تستنبت في دمائهم كيف يخلصون وعيونهم لا تملأُ أبداً إلا بالتراب ؟ “
ملأت الحقيبة بما خف من ملابسها بسرعة جنونية ، كانت تكوّرها وتدفعها عجناً كأنها تملأ وسادة ببقايا أثواب قديمة ، وهي تصف الرجال بأشنع الأوصاف ” لعنكم الله يا رجال لا تحفظون عهدا ولا تصونون عقدا ولا وُدا ، تدنسون فراش الزوجية ، وتقطعون كل العهود والمواثيق ”

صفعت الباب خلفها بقوة، فسمع دويه خارجاً، كانت طقطقة كعبها تحسب أدراج العمارة ، وهي تحادث نفسها بعبارات مسموعة ، والعيون ترصدها متلصصة من الأبواب والشقوق والنوافذ.
” الخانز مع الخانزة وأنا فدار غفلون ”
لم يحرك ساكناً وكأن الأمر لا يعنيه، وكأنه لم يكن مقصوداً بما حدث، أخرج سيجارته وأشعلها بعد أن غازل مقبضها الذهبي بين سبابته وإبهامه، نفث دخانها بتلذذ من جديد، وكأنه كان يتوقع هذه النهاية المحتومة لزواجه .
سمع طرقاً خفيفاً على الباب، إنه نديمه المعتاد وجاره الأعزب جاء بعدما علم بالخبر، فتح له الباب دون أن ينبس بكلمة وعاد الى مجلسه، سد الباب وتبعه، ثم وضع أمامه فوق الطاولة زجاجة نبيذ فاخر، وقال دون مقدمات :
” ألم أقل لك إنك لا تصلح للزواج، ولا الزواج يصلح لك، الزواج عذاب في عذاب، اشرب يا صاح وترنم ” .

عبدالله علي شبلي – المغرب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد