الرائدة في صحافة الموبايل

مساقطُ ضوءٍ على المشهدِ النقديِّ الإفتراضي

غازي احمد ابوطبيخ
الموسوي
………………………………
………………
مقدماً..
لابد من القول أن ماسنورده هنا من التصورات لايعدو عن كونه وجهة نظر قد يختلف معها البعض،وقد يتفق الآخر، ولكن مثل هذا التنوع بالآراء يمكن أن يكون وسيلة إيجابية لإثراء المشهد الثقافي،شريطة حسن النوايا ،وبعيدًا عن قصدية الإختلاف على طريقة الجدل البيزنطي المعروفة..

ومادامت غالبية الأعمال الأدبية التي يتم تناولها من بين النصوص المنشورة على وسائل الإتصال الإلكتروني،فقد وجدنا أنّ من المفيد تسليط الضوء على طبيعة المزاولات النقدية في هذا الواقع الثقافي الجديد على الحياة الحضارية،لذلك نقول بدءاً:
إنّ الحكم على المشهد النقدي العراقي خاصة، والعربي عامة ،من خلال ما ينشر في وسائل الاتصال الإلكترونية أمر يحتاج إلى إعادة نظر ،فعلينا أن لاننسى لحظة واحدة أنّ الغاية الأولى لجميع وسائل الإتصال أساساً هي (التواصل الاجتماعي) وذلك هو إسمها أصلاً،
نحمده تعالى أنّنا كنا من بين من سعى لتحويل الكثير من أبوابها إلى وسيلة للتواصل الثقافي بكافة أشكاله وموضوعاته،.
من هذا المنطلق نشأت إلى جوار المنجز الإبداعي المطروح على ساحات التواصل تجارب نقدية،منها ماكان راسخاً مؤهَّلاً أصلاً، ومنها ما كان ناشئاً خاضعاً لذات القانون الذي يحكم التجارب الابداعية،ونعني قانون التنامي المتصاعد رويداً ،وبحسب الطاقات والقدرات والملكات الخاصة،فكما انّ المطلوب من الساعي في حقل الأدب أن يعثر على لغته الخاصة به والتي تميّزه عن غيره،بسيمياء ذات ملامح واضحة التجليات،فكذلك مطلوب من أصحاب التجارب النقدية العثور على لغتهم الخاصة أيضاً،والطرفان معاً يحتاجان إلى وقت ودربة ومران قد يطول كثيراً.
ولقد اطّلعنا على عدد من المقالات والدعوات التي تُعبّر عن القلق من انتشار هذه الظاهرة،والجميع من دون ريب مُحِقّ في قلقه،إنما لا بأس من توسعة الصدور أكثر انطلاقاً من مجموعة ملاحظات نرى أنها قد تمنحنا فكرة أكثر وضوحاً عن المشهد النقدي المطروح على صفحات الفيس بوك خاصة وبقية الوسائل الأخرى عامة،وسنحاول إجمال هذه الملاحظات بالمحطات التالية:
1- توخّياً للدقة ،لسنا مع التعميم أو التهويل أولاً،كما ولا نقصد الدعوة إلى (موت الناقد) بالمعنى المغلوط الذي توهمه البعض عنها ،تلك الدعوة التي أطلقها رولان بارت ،والتي تعرضت إلى سوء فهم واضح،بل وجهت إليه تهماً كيدية ناقمة ما أنزل الله بها من سلطان،خاصة عربياً،فليس غايته إلغاء دور الناقد ،وهو ناقد أيضاً، إنما كان يدعو إلى تأجيل الحضور فقط لكي يأخذ النص حقه من التواصل الثقافي مع المتلقي،ثم يأتي دور الناقد لاحقاً،لكي لانضطر الى النظر من زاويته وحسب إذا كان حضوره سابقاً او رديفاً في التوقيت،وهو أمر نراه كثيراً هذه الأيام.
الغاية هي التأجيل لمنح النصوص فرصتها في التعبير عن ذاتها بذاتها ،ثم سنحسن الإصغاء إلى صوت الناقد المحترف الأمين، ويكفينا وجود الثلّة النقدية الرصينة كحجة ودلالة تبعث على التطمين النسبي.
2-يمكن للناقد أن يتناول النص الجيد فيُقيِّمهُ ،ولا اعتراض على تناوله للنص المشوب بالربكة أو الضعف فيُقومه،وهذه من البديهيات،لأنّ البعض يتصور خطأً أنّ على الناقد أن يتناول النصوص الجيدة وحسب،ناسياً أو متناسياً الوجه الثاني للمرآة النقدية،والكل يعلم أن النقد ليس تقييماً وحسب وإنما تَشْخَص في مقابلِهِ مهمة التقويم التي لاتقل أهمية بل ربما تكون أكثر أهمية من التقييم كونها مصباح دلالة يتخطى بتأثيره صاحب النص ليمارس دوراً تنموياً يفيد منه كل السعاة في طريق الإبداع،مع الإختلاف في طرائق التوصيل بالتأكيد،وتلك هي المعضلة التي دعتنا لتخصيص هذه المقالة لها على وجه التحديد.
3- لاننكر وجود ظاهرة خطيرة جداً تجدر الإشارة إليها تتمثل باستسهال العملية النقدية إدّعاءً أوزعماً،حتى أن بعض المدعين لايجيدون أبسط المطالب،فضلاً عن آفاق النقد ومناهجه وتوجهاته المدرسية قديماً وحديثاً.
ولكي لايكون هذا التشخيص عائقاً في طريق أصحاب المواهب النقدية الحقيقية والوعي المعمق ،والملكات الموسوعية،والعيون الراصدة الثاقبة،بما يجعلهم أقدر أحياناً حتى من بعض أصحاب الإختصاص الذين لايملكون الموهبة النقدية،خاصة ونحن ممن يعتقد بأن القدرة النقدية موهبة أيضاً،يمكن تطويرها وتوسيع آفاقها من خلال المتابعة والدربة والتثقيف الواسع النطاق،من هنا نقترح على أصحاب المواهب النقدية،ممن لا يملكون الوقت للتوجه إلى تحصيل الحرفيات،
عرض مقالاتهم على أيّ منقح محترف،لمعالجة مثل هذه الجوانب التي لاعلاقة لها بحقيقة الموهبة،وإنما هي شأن علمي يمكن تعلمه إن أراد الساعي النقدي، الإفادة من أصحابه مشورةً أو تنقيحاً كما ذكرنا آنفاً..
4-مما زاد الطين بِلّة إنه في مقابل النقد المزعوم هناك نتاج منسوب الى عوالم الادب ،
وماهو منها،وتلك العلة الأكبر لكثير مما نراه الآن من الطارئين في بعدي الحوار-موضوع المقال-القارئ بجميع مستوياته والمقروء بكافة مستوياته أيضاً،وهذا الأمر أصعب بكثير من سابقه،لأننا لانملك سلطة المنع،أو الحجب،عوداً على ذي بدء( في أنّ هذا العالم الإفتراضي عالم حُرّ ،وفي أصله اجتماعيٌّ،
وربما ترويحيٌّ أيضاً)،فمن أين نملك الحق في أن نمنع أو حتى نفرض على الناس قيوداً مضافة فوق ما يعانون من الأعراف والتقاليد وعموم أشراط الحياة المقننة التي هربوا منها أساساً، ولو في أويقات مقتطعة يمضونها بعيداً عن الموانع وكوابح الحاكميات المركبة والمتداخلة حد شعور الناس بالإختناق.
إنَّ الذين يمارسون النشر على وسائل التواصل،ليسوا جميعاً أصحاب مواهب،وليسوا جميعاً يقصدون كتابة الأدب حتى،بل إنّ أكثرهم يحاولون التنفيس أوالتطهير أوالتسامي كما توكّد ،بل تطالب أحياناً نظريات التحليل النفسي، رغبة في التخلص مما يعلق في صدورهم وذواكرهم من آثار وضواغط الحياة المَعيشة.
من هنا فإن واجب الناقد الحصيف يتشكل أو يتحول وفق المحيط الذي يشتغل في وسطه،فالإشتغال داخل المنتديات المتخصصة يختلف تماماً عن الاشتغال في الوسط العام،وقد لاحظنا في بعض المنتديات اشتغالاً مسؤولاً يستحق الإحترام ،بحيث تحولت هذه التجمعات والملتقيات الموفقة إلى مدارس خلّاقة حقاً،أفرزت الكثير من النتائج المقنعة.
ولكن الذي أردنا الإشارة إليه إن ألبعض يحاول أن يفرض جواً مدرسياً أو أكاديمياً على جميع المنشورات والناشرين،بل ويتحدثون بلغة تقريعية بالغة الغرابة !!.
إنها محاولة غير مجدية واقعًا من بعض الذين يفهمون النقد باعتباره فقهاً سلطوياً من نوع ما،وتلك نظرة سالبة،تحتاج الى كثير من التفتح والتنوير.
من هنا علينا كسعاة مخلصين في هذا الحقل أن نعرض الصحيح بعيداً عن التعنيف أو السخرية أو التقريع،بعرض أمثلة ونماذج وشواهد مجاورة أومجانسة،فيفيد من هذا العرض الجميع.ومن سعى إلى التطور أو التنامي أخذ ماينفعه في طريق النشوء والإرتقاء.
هذا العرض سينفع بالتأكيد الشاعر والكاتب في جانب،كما وينفع أصحاب التجارب النقدية في ذات الوقت،وربما نجد مجموعة من المخلصين الذين دأبوا على متابعة أصحاب التجارب مباشرة على الخاص ،وبشكل شخصي في دروس مجانية عميقة الإيثار،كثيرة المشاق.
5-لابد من الإقرار بأنّ الأسفار الموازية للنصوص كإبداع رديف بشروط الإبداع ذاتها ليست مدانة أبداً، وعلى العكس من ذلك فكثير منها ينطوي على تفجير لطاقات النص الحافز موضوعةً أو صوراً،وقد لاحظنا أيضاً أسفاراً تحليليةً عميقةً تنم عن عمق في الرؤية وسعة في الآفاق تستحق الاحترام الكبير،سواء أكانت حوماناً حول النص ،أو انطلاقاً منه، إنما هل يجوز احتسابها على النقد بمعناه الاكاديمي العلمي،هذا أمر مختلف عليه.
لكننا نتمنى على أصحابها استكمال الرحلة نحو التمكن من الحرفيات عموماً، كونها فعالية ميسرة قابلة للتعلم بقفزات نوعية عاجلة ،خاصة بالنسبة لأصحاب المواهب التحليلية القارئة الكبيرة،الذين لايحتاجون إلا إليها،لكي يقفوا في المستقبل القريب إلى جوار النقاد الحقيقيين بشرط الإنصاف الإتفاقي.
6-مما يبعث على القلق بل والإنزعاج ويستلزم الإدانة والإحتجاج، أن بعض أنماط المزاولات المحسوبة على النقد،وإن كان أصحابها من ذوي الملكات الثقافية، محفوزة بثلاثة دوافع مريبة تستدعي التأشير:

أ-الحافز الإجتماعي وملحقاته.

ب-الحافز المادي وملحقاته.

ج-الحافز الإستعراضي وملحقاته.

هذه الثلاثية الخطيرة تحتاج إلى مبحث تحليلي مستقل.كونها قضية حساسة جداً، ترتبط عميقاً بعلم النفس وعلم الإجتماع على وجه الخصوص،على أمل إفرادها في متابعة تفصيلية جريئة تضع النقاط على الحروف إنْ توفّر الوقت اللازم بإذنه وتوفيقه تعالى.
ومع كل ما ذكرناه آنفاً ،فإنّ لنا كبيرَ أملٍ وثقةٍ بثُلّةٍ من الوُعاة الذين يجيدون الفرز بين النقد المنصف المسؤول،في مقابل المحسوب تجنياً عليه.
بيد أنّ مايبعث على الطمأنينة أنّ المشهد النقدي الحقيقي موجود في مضانّهِ ،ولا تأخذه في قول الحقيقة لومة لائم،كونه متمترساً بمناخاته العلمية والدراسية والمكتبية والإعلامية المحكمة التي لاسبيل فيها إلى تمرير المجاملات الزائفة إلّا نادراً ،وبعكسها سيُعرّض الناقد نفسه إلى مالاتحمد عقباه من الإدانات والنفور،وذلك مالايسمح به على نفسه إلا من باع قلمه رخيصاً لاسمح الله تعالى.
7-لقد لاحظنا وقوف أغلب الواجهات الأكاديمية في البدء موقف الراصد الشديد الحذر ،رغم أن حضورها بالغ الضرورة،بالغ الأثر،بل يمثل ضمانة علمية من نوع ما،وقد يكون تأخرها بالحضور سبباً من الأسباب في تطاول البعض على مقام الناقد الحقيقي كمرجعية اتفاقية..
إنّ فترة التأخّر طالت قليلاً،حتى ثبت مع الأيام جدوى هذا الكشف الحضاري البالغ الأهمية كمسرب متعدّد البوابات واسع الآفاق للتواصل والتفاعل الإنثروبولوجي،
خاصة بعد أن حاصر الوباء الّلعين حياة الناس الإجتماعية والثقافية إلى الحدود القصوى ،ممّا حدا بالكثيرين من أساتذة الجامعات بجميع مستوياتهم العلمية إلى ولوج هذا العالم الفسيح ،مع التزام جانب الحذر النسبي عند الأغلبية أيضاً،عدا عن بعض الإستثناءات من الذين دخلوا بكامل طاقاتهم بإسهامات لامعة نافعة جزاهم الله خيراً،مع التأكيد على أنّ وجود المنصفين منهم مدعاة لحماية المشهد كله من الطارئين .
هناك ملاحظة نراها مهمة أيضاً ،تتعلق بوقوع البعض في الوهم بإمكانية تحويل منافذ التواصل إلى مشروع أكاديمي محض !!..
وتلك ظاهرة تقود إلى الربكة في تشخيص الكيفيات والوسائل والاساليب المقنعة لجميع أطراف المعادلة الثلاثية( المرسل والمرسل إليه ،ثم الطرف الثالث وهو الناقد بحكم النوع كونه مؤهلاً للحكم النزيه،مع أنه متلقٍّ أيضا)،تلك الحالة تحتاج إلى تدقيق عميق رغم الهدف النبيل.
8-مادامت جميع الأفعال الإبداعية المقصودة بهذه المتابعة ،نقداً أوفعلاً إبداعياً إضافة إلى عموم فعاليات التلقي، تمر عبر نوافذ وبوابات الإتصال الإلكتروني ،فإنّ الإشكال الذي ينبغي التركيز عليه، يكمن في كيفية تحقيق مشهد نقدي نزيه ورصين ومقنع وغير استفزازي في آن واحد.
والمقصود هنا طبيعة الفعل النقدي الإجرائي ،وكيف يمكن تناول النصوص بالدراسات والمطالعات والقراءات أمام المشهد الجمعي للتلقي،خاصة وجلّه شديد الحساسية من الناحية الإجتماعية بالخصوص ،مع وجود عنصري الحوار المجتمعي بجنسيه الراصدين،هذا المشهد يشكل بعد الرقيب الذي يقود إلى أعمق مشاعر الحرج والتوتر .
كيف يمكن للناقد أن يمارس فعل الإيضاح( التفسير والتحليل)،فالتقييم،ثم التقويم ،بما يستدعي إعلان مواضع الإيجاب في جانب،ومواضع الضعف والسلب في جانب آخر ،وقد أصبح الكل في قاعة مسرح واحدة !!.
هذه التساؤلات والضغوط والإرهاصات الدفينة قادت إلى بروز ظاهرة خطيرة تتجسد في محاولة الكثير من أصحاب التجارب الشعرية والقصصية خصوصاً ل(تصنيع)نقادهم بأيديهم رغبة في إبراز نصوصهم وتجاربهم ،حيث يرفعون التعليقات العابرة إلى مواضع النشر العام،تحت لافتات وعتبات ملونة ومُبرّزة تقول( هذا ماكتبه عني الاستاذ الناقد الّلوذعي الحريف !!)،
وحقيقة الكلام لايعدو عن المجاملات المحفوظة عن ظهر قلب،والتي لاتغني من جوع ولاتشعل فتيلا.
ألسؤال الذي يبرز الآن بعد كل ماذكرناه ،كيف للناقد الحقيقي أن يزاول
دوره العلمي الجاد في ظل هكذا مناخات عسيرة ومربكة!.
كيف يتمكن الناقد الراسخ من إمساك العصا من الوسط بحيث يرتقي بالمشهد كله إلى دكة الحقيقة العلمية للنقد الادبي والفني الرصين فينتفع منه جميع السعاة من دون ان يفقد إحدى الشريحتين ،
ونعني أصحاب التجارب الإبداعية وأصحاب التجارب النقدية في نفس الوقت.
وهل أنّ الجمع بين روح التربوي الإجتماعي وروح الناقد الحصيف في بوتقة واحدة هي الحل المناسب.ذلك ما يستدعي النظر المتروي من الجميع.
9-لقد برزت خلال المشهد ظاهرة نقد النقد ،وهذا موضوع كبير، يستدعي بيان ماله وما عليه،لعلاقته هو الآخر بالأثر الإجتماعي،وبحساسيات أكبر بكثير.
إنّ ركوب مثل هذه الموجة قد يقود من جهة أخرى إلى أن تحصل فيها نفس الأغلوطة التي حدثت مع ( النقد الاول للنص ).وهذا أمر يقلقنا كثيراً على العلم وأهل العلم،فيركب هذه الموجة من لا يصلح للنقد أصلا فكيف يصلح لنقد النقد.
ولقد تابعنا بعض الحالات التي تندرج في هذا الإطار من خلال رد المبدع على الناقد دفاعاً عن نصه أو استجابة له،كما ولمحنا الكثير من الردود الموازية التي صدرت من المعلقين ،وللحق كان من بينها العديد من الحوارات الجميلة في جانب، وأحيانا الناكصة قيمياً وعلمياً بين ناقدين فقدا زِمام السيطرة في لحظة ضاغطة في جانب آخر.
نعم هذا ماتابعناه على طول الخط،ولكن الإيجابيَّ منه كان يجري عفوياً ولايخلو من العذوبة واللذة الحوارية المتحضرة في أحيانٍ نادرة أخرى.
ألحذر كل الحذر أن يحدث تجاوز ما لاستحقاقات الناس الذين بذلوا الكثير من الجهود دربة ومراناً وتطويراً للذات في بعدي الثقافة الموسوعية والاحتراف المهني، فيطرق الباب كل من هب ودب!،قفزاً على الحقائق.
اتذكر بهذا السياق مع الناقد التونسي الدكتور محمد خطاب تحذيرات الناقد الإنجليزي ت.س.إليوت التي يؤكد خلالها وجود ازمة نقدية حقيقية آنذاك،وكأني به يتحدث عن الميقات الراهن.
ولقد جمعني قبل فترة قصيرة من الآن حوارٌ مع زميل ساع في هذا الإتجاه ،وكان حوارنا يدور حول سمات الناقد الحقيقي،فأوردت له في سياق حديثنا أننا نُدَرِّسُ-بضم النون وتشديد الراء وكسرها-صفات الناقد،وعندنا كما يعلم المختصون كتاب للنقد الادبي يُدَرَّس في الصف السادس الثانوي القسم الادبي مختصراً في العراق، بينما يتوسع رويداً في الكليات المتخصصة يتضمن خصائص وصفات الناقد التي يتوجب وليس يُستحب توافرها بعمق ورسوخ فيه،بحيث يصعب كثيراً بعد الإطلاع عليها أن يقول فلان من الناس أنه ناقد،ولكننا محكومون بالنسبية طبعاً،فكثير منا سعاة في هذا الطريق الشائك الطويل.
لقد برز مفهوم التضاد أوالتوازي الفكري إلى أقصى مراحله سمواً على يد اثنين من عمالقة الفكر العربي والاسلامي وأعني الفيلسوف بن رشد والامام الغزالي،وكلنا يعلم حكاية ( تهافت الفلاسفة) ومن بعده ( تهافت التهافت)،ومع بلوغهما مبالغ العظمة والعبقرية التي لاخلاف عليها، فإن أطاريحهما لم تسلم من التعنيف والهزء والسخرية والتشكيك والتكفير وحتى الشتيمة المغلفة.
من هذه المنطلقات جميعاً،لا نخفي إحساسنا العميق بالتواضع عن بلوغ مقام الناقد بمعناه الذي عرفناه وخبرناه منذ زمن طويل،فكيف بمن يريد أن يحكم على النقود ،وليس على النصوص،تلك مهمة مستصعبة جداً،ليس من السهل الولوج إلى معتركها الخطير.

وعلى أساس كل ماذكرناه آنفاً، نحاول تقديم ما أمكن خدمة للسعاة في حقل الابداع المديد، وبعدها عسانا نبلغ حافات العظمة الموسوعية للناقد الانسكلوبيدي الشامل.
من هنا ودفعاً للحرج انصبّت جهودنا التفصيلية (نحواً وعروضاً وسياقاً وبناءً،شكلاً ومضموناً،شعراً وسرداً)على الحوار الفردي أو الثنائي على الخاص،كتابة أو اتصالاً،وهو جهد لانكتم صعوبته بل ومشقته،وقد يعترض ناقد ما فيقول إنك بهذا تحرم الناس من الإفادة المجاورة،ولكننا أسسنا للإجابة سلفاً ،إنها رحلة طويلة للبحث عن أفضل السبل ،بما يرفع الحرج عن السالكين.
وليس بالضرورة أن نتفق على كل صغيرة أو كبيرة،ولكننا يجب أن نتفق حكماً على أن يأخذ الوعي دورة استحالته الكامله،لكي نتقدم أو ربما نتقحم بٱتجاه المشهد الثقافي المضيء.
وهذا المطلب يستلزم تحديثاً معلوماتياً متواصلاً مع آخر عناقيد المعرفة النقدية عربياً وعالمياً.
هذا يعني بدءًا أن الثقافة ليست حكرأ على أحد بالمطلق،وبواباتها مفتوحة المصاريع دائماً، وليس من الضروري أبداً أن يصل بنا الانبهار حد الاحساس بالانحسار ،كلّا،فما من ذكي إلّا وهناك من هو أذكى منه،وما من قوي إلا وهناك من هو أقوى منه،والأصل الأصيل النبيل في عموم الحوار الثقافي،هو التعاون والتكامل بل وحتى التكافل إن اقتضت الحال،وذلك بدوره يستلزم فتح نوافذ الحوار بين أصحاب التجارب النقدية بإخلاص وتوق وصدر مفتوح .وهذه
دعوة للتنامي خدمة للمشهد الثقافي العراقي والعربي في آن. وهذا يعني ضمنياً أنه لا أحد يمكنه أن يطرد السعاة من خارطة المسعى،فذلك هو التعسف ذاته ،بل وهو عين القسر لجميع المعطيات.
نعم ..إنّ الجميع بحاجة إلى التنامي،ولا يمكن أن يحدث هذا التنامي الا بسماع الجديد الأعلى والأسمى ،لكي تنقدح الومضة الاولى فيتحرك الساعي المعرفي بالاتجاه الذي يضعه رويداً على سكة الترقي..
ولرب سالك لا يكتفي بهذا ،فيغرف لسفينه بمجذافين معا سوياً،وما كل من سعى وصل،فالرب سبحانه وليّ التوفيق. 10-وختاماً أرى أننا يجب أن نقرر أولا وقبل كل شئ ،أنه لا حصر لطرق المعرفة ،كما ولاحصر لمدارس النقد ،وهو أمر كثّفنا الحديث عنه كما أسلفنا في الملف النقدي الأول ،نكرره لاهميته،فكل المدارس والمناهج وسائل ممكنة للبحث وقراءة وتحليل الاعمال الإبداعية.
وغالبيتنا يتذكر مقولة الشيخ النفري التي يؤكد فيها بكل وضوح (أن الطرائق على عدد الناس)،هذا الفهم العملاق يتجاوز بمفاده ورؤيته الضخمة آخر الافهام الديموقراطية المعاصرة ،مع أننا نتحدث في اتجاه آخر ،وعلى صعيد أكثر شمولاً،بقصد تبيان أنّ من يحاول فرض منهج نقدي محدد سيُضيّق الآفاق على نفسه وعلى المبدعين.
ألكل يملك حق المسعى،إنما لكل بحسب طاقته وذائقته.
والمسعى عجيب التنوع متكاثر التفاصيل،وإني لأظنه مستمراً في التوالد ،رغماً عن كل المحاولات السكونية التي تحاول خنق الانفاس،أو قطع الطريق على حركيتها الدائبة كونياً.
وعوداً على ذي بدء ،نقول: إن لكل ساع خطوة أولى على كل الأصعدة والاتجاهات،
وإن من يظن أن طريقه المعرفي هو الزعيم الاوحد فقد وقع في خطل كبير.
فكل منا مافتئ يردد المثل السائر( كل الطرق تؤدي الى روما)،
وقدّمنا آنفاً أن طرق المعرفة لا حصر لها ،ومهما كانت موسوعية الانسان ،فلابد أن يُقَصِّر في جانب ،ولا أحد يعرف كل شئ،وقد يعرف كثيرأ عن طريق مسعاه الشخصي ،ولكنه لايعرف إلا القليل قياساً بغيره.
نحن حين نتحدث عن هذا الحال لسنا ضد انحياز الناقد لمنهج ما،وإنما ضد الانغلاق وربما التأزم عند البعض للأسف الشديد.
إنّ المسعى الثقافي بخاصة يتنافى أصلاً مع أي شكل من أشكال التقوقع الفكري،بل إن هذه العلة الخطيرة هي منشأ التصورات العَقَدية الشمولية التي خنقت كل أنواع الابداع،وحاولت
قطع الطريق على كل الأساليب وطرائق البحث الأخرى،وكأن المطلوب من الجميع التحديق من زاوية نظر واحدة !!.
نقول ذلك حرصاً منا على تبيان أن المعرفة مفتوحة البوابات على العوالم الأربعة المعروفة ونعني بها:
أ- الما وراء النفسي.
ب-الماوراء الإجتماعي.
ج-ماوراء الطبيعة.
د-المخزون الستراتيجي الجمعي وأعني الارشيف الانثروبولوجي الحضاري عموما،وهو ملكية مشاعة للجميع ،لا يحق لأحد احتكارها أبداً،مهما حاول بوسائله التعسفية، وماكنته الديكتاتورية،وإنْ حدث أنْ يسرق أحدٌ ما برهة من الزمن في ميقات ناشز، فلن تطول مهما استطالت،والأمثلة واضحة للجميع.
ألحمد لله تعالى،أن زرّاً إلكترونياً واحداً اصبح كفيلاً بٱستحضار مالا يحصى من المعلومات مجاناً.
بقي أن نشير إلى أن بعدي الوعي الحضاري للإنسانية بحسب التوزيع الفلسفي، ونعني بهما:
1- نظرية الوجود.
2-نظرية المعرفة.
وبكل ما أنتجا من انماط موضوعية أواشراقية،بما يصعب حصره،إنما لابد من الإشارة إلى انّ جلّ المدارس الأدبية والنقدية منها ذات صلة بشكل أو آخر بالجذور الفلسفية،مهما حاولت النأي بنفسها عنها.
ترى أيها التي يحق لنا فرضها كسبيل وحيد !!.
ولننظر كم هي الحلقات المعرفية متناهية حتى نصل بها إلى الزاوية التي نحدّق منها،ويا لها من كارثة حضارية حقيقية إذا اعتقدنا ولو للحظة واحدة أنها الزاوية الوحيدة المقدسة التي يجب على الجميع أن ينظر منها.وقد كفانا ما رأينا ،وما نراه حتى اللحظة.
إنّ هذا المبحث متطاول متواصل بحكم صلته بمادة بحثه الواسعة النطاق،آملين تسليط الاضواء على تفاصيلة وتشعباته في القادم من الايام.
وانطلاقاً من جميع هذه الظواهر المحسوسة،
كانت مقارباتنا للتجارب الابداعية متنوعة بين المشهد النقدي الأكاديمي،والقراءات الإجمالية ،والإطلالات المكثفة،فضلاً عن الأضواء العامة على بعض المشاهد الشعرية المختارة،كما أوردنا في التقديم الموجز.
وكلنا أمل في تقديم ماينفع السالكين في حقول الإبداع،ومنه سبحانه السداد والتوفيق،والحمد لله رب العالمين.

الدكتور غازي موسوي أبوطبيخ. العراق.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد