الرائدة في صحافة الموبايل

قراءة في رواية “الطلح لا يخطئ القبلة” للروائي المغربي بوزيد الغلى

قلم عبد الشكور ابريك

باحث ومهتم بالتراث الثقافي

بوزيد الغلى باحث في التراث الثقافي الحساني وروائي، له حضور متميز على المستوى الوطني والعربي من خلال مجموعة من المؤلفاتمن أبرزها:زاوية أسا جدل التاريخ والأسطورة،دراسات في المأثور الشعبي الحساني،عتبات صحراوية: قراءة في المنجز السردي والأكاديمي بالصحراء(نماذج مختارة)،نفاضة الذاكرة الشعبية الحسانية، التراث الشعبي الحساني: ثراء وتنوع،كما أن للكاتب أعمال قصصية وله مجموعة من المقالاتالمنشورة في العديد من المجلات الثقافية الوطنية والعربية المحكمة فضلا عن مشاركته في العديد من الملتقيات الأدبية والفكرية والعلمية داخل الوطن وخارجه.

رواية “الطلح لا يخطئ القبلة” مولود جديد من تأليف الروائي المغربي بوزيد الغلى، منشورات مؤسسة باحثون للدراسات، الطبعة الأولى 2021، مطبعة وراقة بلال، نرجس، فاس، تصميم الغلاف: جهاد أبلال لوحة الغلاف من إبداع الفنان التشكيلي المغربي ابراهيم الحيسن، عدد صفحاتها 330 صفحة.

يعد العنوان عتبة أساس تستوقف القارئ قبل ولوج عالم النص، كونه يحمل أبعادا ودلالات تتفاعل وأفق انتظار القارئ، كما أنه ينم عن فهم عميق لبوح الكاتب وما يختلج عوالم شخصيته وما صاحبها من أحداث وتجارب وأفكار، فيتطلب ذلك تخصيص وقت ليس باليسير لأجل اختيار العنوان وهو ما نلمسه بشكل جلي في هذا العمل الأدبي الذي اختار له بوزيد عنوانا دقيقا ودالا “الطلح لا يخطئ القبلة”.

يستوقفنا إذنالمشهد الافتتاحي لهذا النص من خلال عنوانه حيثاختيار شجرة “الطلح” Acaciaأو “ذهب الصحراء الأخضر”، هذه الشجرة التي اجتمع فيها ما تفرق في غيرها، والتي تتقاسم والإنسان الصحراوي عديد الخصائص والسمات:صبروتحمل وعطاء،استقرار وعمار ووفاء، فوائد وأسرار وعادات وأشياء أخرى جميلة أصيلة هي من شيم أهل الصحراء.

وجه الروائي بوصلة سفر سيرته الذاتية في اتجاه قبلة الصحراء حيث مسقط الرأس والفضاء الذي احتضن أحداث الرواية المتواترة المتشابكة التي استوت بين صفحات هذا العمل عبر السفر في رحلة طويلة ممتدة امتداد المجال؛ مجال أسا ووادي نون حيث التاريخ والجغرافيا، الدين والثقافة، الخصوصية الاجتماعية والتراثوأشياء أخرى تتهادى مع أحداث الرواية التي حاولت قدر المستطاع أن تمتح من الأصل الذي مهما تعاظمت الأحداث والظروف لتزحزحهلا يخطئ القبلة، هو كذلك الأمر بالنسبة ليَاقُوتة الصحراء”شجرة الطلح”، فالطلح كما هو متواتر فيالذاكرة الشعبية الحسانية “مَا يْصَدْ مْكَافْي”.

تكشف القراءة الخطية لهذا النص عن محتواه العام الذي يتشكل من مواد سيرية بوب لها الكاتب في ستة عناوين رئيسة:

  • طيحة أسا 4 يونيو 1979
  • أطياف الطفولة 1986/1980
  • على شفا الجماعة 1986
  • أمواج الجماعة
  • على وشك الولادة من جديد
  • خارج الجماعة فوق أديم الصحراء 1996

ضمت في متنها الحكائي تفاصيل ذكريات وتجارب حياةشخصيةترعرعت في وسط عائلي محافظأطرتهوأثرت فيهأحداث وعلاقات القرابة وشخصيات الجد والأب والأم والأخ وأصدقاء وأساتذة وأطر التحصيل العلمي فضلا عن أصدقاء “الجماعة” على امتداد سنوات مضت، إنها شخصية “زياد”.

نقرأ في الرواية محاولة الكاتب لفت انتباه المتلقي إلى الحديث عن أحداث هامة من تاريخ منطقة “أسا”التي ظلتالكتابة عنها رهينة التأجيلأو لا تتعدى بعض المحاولات المحتشمة، إنها حرب الصحراء وتحديدا هجوم 1979 على أسا من طرف البوليساريو، وما استتبع ذلك من أحداث ومآسي لها  رَجْعُها بكل تأكيد في هذا العمل الذي اجتهد صاحبه قدر المستطاع بشكل أدبي في استنطاق ذاكرة المكان لتقدم للقارئ مشاهد من تاريخ الهجوم على المنطقة، وكأن هذا العمل نبهنا إلى مسألة هامة وأساس أشار لها العلامة المختار السوسي في موسوعته المعسول سابقا عندما تحدث عن تدوين التاريخ المغربي مؤكدا على أن كتابته يجب أن تبدأ من الهوامش.

القراءة المتأنية للنص تكشف للقارئ ما عاشتهشخصية زياد من أحداث ظلت راسخة فيذاكرته؛هي بمثابة الأحداث المفجرة التي حركتفيه روح الكتابة،فزياد الذي كان حينها يبلغ من العمر ثمان سنوات لا زالت عالقة بذهنه أحداث ذلك اليوم الرهيب الذي يعتبر جزء من ذاكرة المنطقة، ويستمر الراوي في سرد مخزون ذاكرته كفتى موهوبيافع يتصرف بعفوية، بعدهاكشابطموح عارف بخصوصيات وأعراف وتقاليد أهل الصحراء، لكنه أكثر من يتوقإلى الانفتاح على عوالم وثقافات أخرى، هو في النهاية إنسانيحب ويتوسم في أن يكون تواقا متحررا شبيها في ذلك بشجرة “الطلح” السامقة إن لم تنفع قاصدي مزاياها لا ولن تضرهم.

تتواتر أحداث الرواية لتتحدث عن محطة أخرى من مسار زياد؛شغف الانتقال من مسقط الرأس في اتجاه واد نون وتحديدا مدينة كلميم لإتمام الدراسة، وكأن الراويحاول الحديث باسم مجموعة من جيله الذين فرض عليهم الانتقال في ظروف خاصة وصعبة، وهي رحلة استحضر من خلالهاالراوي مراحلالتحصيل العلمي (الاعدادية، الثانوية فالجامعة ومدرسة تكوين الاساتذة)لتكتمل الصورة بعدها بالانضمام إلى تيار إسلامي “على شفا الجماعة 1986” وهي مرحلة أخرى هامة من مسار زياد خلالها تحدث بشكل صريح عن تأثير ذلك الانضمام للجماعة في شخصيته قبل أن تتضح له الصورة، والخروج منهابعدما اتضحت الصورة واكتمل النضج الفكري، عودة إلى الأصل في ذلك تناغم واضح مع عنوان النص.

يستخلص القارئ أن مكاشفة الذات تحضر في الرواية من خلال تتبع مسار حياة الشخصية المركزية”زياد”، وأن كشف تعامله مع مواقفهاتقييما وتقويمايسمح بشكل جلي بولادة جديدة فوق أديم الصحراء، فكانت الطريقة ذكية على المستوى الفني للوصول لذلك وللتأريخ لكثير من التحولات التي عرفها المجتمع، كما تفتح الرواية الكثير من الملفات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وتنقل للقارئ خصوصيات المجتمع الصحراوي بأسلوب أدبي ممتع، أبدع الروائي في تجسيد أبعاد الرواية المشهدية، الأسلوبية والحوارية التي لم تكن تخلو من الكثير من التأمل السردي التاريخي الثقافي الفكري حول مشاهد وشواهد ظلت راسخة في ذاكرته،على قارئ الرواية أن يعود لكثير من المراجع والمظان ليتوسع البحثحول أهم قضاياها الحساسة الحاضرةالتيتحضر في هذا العمل الأدبي الذي نعده إضافة ثرية للحقل السردي حول مجال الصحراء المغربية.

على سبيل الخلاصة:

خلاصة قراءة هذه الرواية من زاويتي الخاصة تنبني على ما يلي:

أولا:“الطلح لا يخطئ القبلة”؛ إصدار يسعى ليقول لكل الباحثين والمهتمين أن مجال الصحراء عامة وأسا ووادي نون تحديدا؛ يعد فضاء بكرا في مختلف المجالات الإبداعية سيما حقل السرد الذي لا زال في مسيس الحاجة لسبر أغواره واستكشاف خصوصياته. 

ثانيا: نقطة أخرى مضيئة من حياة الراوي قدمها بشكل لم يخلو من إبداع أدبي تمثلت في أمهات المصادر والمراجع التي نهل من معينها المعرفي فشكلت الزاد الذي قوى رصيده الثقافي، وأنارت له زوايا العالمين الداخلي والخارجي، في إشارة منهإلى أن النص ينبه لأهمية القراءة في حياة الإنسان.

ثالثا:تضمنت الرواية إشارات للعديد من عناصر التراث الثقافي المادي واللامادي التي استوقفت الراوئي عند أماكن أثرية هامة بكل من أسا وكلميم محاولة منه لفت انتباه المهتمين والباحثين إلى ضرورة الوقوف عندها بغية استنطاق ما تختزنه من أبعاد ودلالات رمزية أصيلة هي في الأساس جزء من الذاكرة الجماعية الشعبية بالصحراء المغربية.

في الختام:

إذا نجحت هذه الروايةفي نقل الكثير من المشاهد الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافيةالمؤثرة في مسارات شخصية زياد؛ فنحن نرى أن الكتابة  بكل طرحها هذا -الحقيقي- يتقاسمها مع العديد من أفراد جيله ومعنا نحن كأبناء رقعة واحدة عايشنا العديد من القضايا العابرة ضمن أحداث الرواية التي أكيد أننا اكتوينا من لظاها كما اكتوى ساكنتها في سابق العهد من نار حرب الصحراء.

وإذا كان هناك مبدعون يميلون إلى الكتابة عن الآخر والخارج كما هو حال العديد من رواد الكتابة الأدبية الروائية المغربية والعربية فمن الطبيعي والمنطقي تماماً أن نجد كُتَّاباً آخرين يتوجهون بمجمل إبداعاتهم السردية أو الشعرية إلى عالم الذات وما خالجها من انتصارات وانكسارات من أفراح وأتراح إنجازات وإخفاقات…

فإن رواية “الطلح لا يخطئ القبلة” قد وضعت الأصبع على أهمية “شجرة الطلح” باعتبارها “صيدلية أهل الصحراء”، وعلى أهمية الكتابة الإبداعية الأدبية عند أبناء الصحراءللفت الانتباه للعديد من القضايا والإشكالات بمجالها الممتد.فمنطق الإبداع الأدبي يفيدنا بأن تجربة الكتابة الإبداعية هي جزء أساس وحميمي من تجربة الحياة بأبعادها الفردية والاجتماعية والإنسانية الكونية بشكل عام.

يثبت  الكاتب ب وزيد الغلى من خلال نصه الأدبي الممتع هذا انتماءه الراسخ إلى أسرة المؤلفين من أبناء الصحراء، وهويتحرك بخطى ثابتة ورزينة لسبر أغوار وخصوصيات مجالهاالرحب الممتد وتراثها الثقافي المادي واللامادي الغني الأصيل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد