الرائدة في صحافة الموبايل

معركة الوعي قبل معركة التغيير

عبد المولى المروري

لقد توارى المثقفون والمفكرون عن الأنظار، وتوقف إنتاجهم الفكري والثقافي الذي يروم نشر الوعي ويهدف إلى الرفع من مستوى نضج الشعب والرقي باهتماماتهم وتهذيب أذواقهم وتعديل سلوكهم وبناء علاقات اجتماعية على أرضية حضارية .. وتركوا الساحة فارغة لنوعية من البشر أجادوا استغلال وسائل التواصل الاجتماعي أبشع استغلال وأسوء استعمال.. وأخطرهم من يسمون باليوتوبرز .

فصنف منهم شغلهم الشاغل ومركز اهتمامهم وذروة انشغالهم هو أجسامهم أو وجوههم أو مؤخراتهم، وضمن الصنف نفسه من ينشر غسيل حياته الخاصة والحميمية ومشاكلها ونجاحاتها ومصائبها ومحاسنها وفواجعها ومسراتها … وهكذا .. في قالب ينحدر بمستوى الوعي إلى أسفل السافلين، وينزلق بالذوق إلى أدنس مستوى من العفونة والنتانة، همهم الأنا واللذة والمتعة ونشر الرذيلة واغتيال الفضيلة في النفس والمجتمع، ونشر التخلف الفكري وتعميق الجهل لدى الفرد، ونشره على أوسع نطاق في المجتمع، ولهم من ذلك مداخيل مالية مهمة وجمهور عريض من الأغبياء والسذج..

وصنف آخر ينتمي إلى زمرة الناقمين على الواقع الحاقدين على الدولة والغاضبين من سياستها، لأن أغلبهم يعتبرون أنفسهم ضحايا أحكامها أو قراراتها وسياستها، وآثروا الهجرة عن الوطن والهروب من سياسة الدولة وحكمها، وهناك في بلد المهجر أطلقوا العنان لألسنتهم في سب النظام والحكم والدولة … اعتقادا منهم أن هذا الأسلوب يضعف الدولة ويفضح ممارساتها وينشر الوعي عند الناس، ويرفع من منسوب غضبهم ونقمتهم على هذه الدولة .. وإنما هي محاولات يائسة من أجل التنفيس عن الحقد المركز في نفوسهم، وتخفي تحتها رغبة في الانتقام الأعمى، ولن يذهبوا أبعد من ذلك.. ونسي أو تناسى هؤلاء، أو إنهم فعلا يجهلون أن السب والشتم لا ينشر وعيا ولا يصنع نضجا ولا يأتي بتغيير للواقع أو إسقاط لنظام.. هم يعيشون في وهم كبير تحت وطأة الشعور بالظلم والذل والمهانة التي عانوا منها.. ولهم أيضا مداخيل مهمة مما ينتجونه عبر اليوتيوب، ولهم جمهورهم العريض الذي يتقاسم معهم هذه المعاناة أو المواقف في صمت، وأحيانا بتعابير الإعجاب والتعليقات المؤيدة أو الساخرة، وهنا يقف عندهم ” النضال “.

وهناك صنف آخر، بعيد كل البعد عن لغة الإثارة أو أسلوب الإغراء والغواية، ولا يعتمدون أسلوب السب والشتم، بل يعتمدون أسلوبا يحرص على رقي الكلام ونضج الأفكار ونظافة التعبير.. تجد في كلامهم صدقا، وفي تحليلهم عمقا، ورغبتهم في الإصلاح والتغيير شوقا.. إلا أن في بعض كلامهم تشنجا، وفي بعض مواقفهم تطرفا، ومن أجل الوصول إلى غاياتهم عجلة وتسرعا.. أقرب ما تكون إلى التهور والمغامرة الكلامية غير المتزنة وغير المدروسة بعناية، وغير مؤطرة برؤية، وغير محصنة بمنهجية .. وهذا يؤثر على نظرتهم للأمور، فيجعلها قاصرة وضبابية، ويضعف تحليلهم للواقع، ويجعل جل كلامهم تائها بلا رؤية أو بوصلة، فلا صدقهم يجدي، ولا حسن كلامهم ينفع، ولا أفكارهم تؤثر، ولا أحلامهم تتحقق بالسرعة التي يظنون، فيصيبهم اليأس والإحباط، وقد ينتهي ببعضهم إلى الكفر بأي تغيير أو إصلاح، لهؤلاء جمهور ضعيف جدا، ولا مزايا أو منافع تعود عليهم إلا الألم والأنين والوجع، وملاحقات الأجهزة الأمنية، والتربص بهم ومتابعتهم في أدق تفاصيل حياتهم..

هذا بعض ما يميز فضاءات ومواقع التواصل الاجتماعي الذي أصبح مجالا للتأثير والتوجيه وصناعة الرأي العام، في تسابق محموم ومجنون من أجل الفوز بأوسع قاعدة من المتتبعين والمعجبين وملء الأرصدة، في غياب شبه تام للمفكر الرصين والمثقف الرزين والعالم المتين..

ما يجب أن يشتغل عليه الجيل الجديد من المثقفين ذوي النيات الحسنة والهمِّ الكبير والصدق الخالص هو المساهمة نشر الوعي بين الناس والرفع من مستوى نضجهم والرقي بفكرهم وتهذيب اذواقهم، بمناقشة قضايا اجتماعية وسياسية وثقافية، واعتماد تحليل على أسس واقعية قريبة من فكر الناس وأفهامهم، بلغة سهلة وبسيطة تفكك الظواهر وتساهم في إيجاد حلول لها.. مع لغة نقدية قوية ومباشرة، ولكن بعيدة عن التشنج والتعصب، أو السخرية والتهكم، وإلقاء أحكام القيمة على بعض السياسات التي تعتمدها وتتبناها الدولة وأجهزتها التنفيذية والأمنية..

إن النقد الأعمى وأحكام القيمة، ولغة السب والتهكم، وأسلوب الغضب والحقد، لا يبني فكرا، ولا يرفع وعيا، ولا ينمي نضجا، ولا يهذب ذوقا، ولا يصنع تغييرا.. فمعركة التغيير لابد أن تسبقها معركة الوعي، ومعركة الوعي قادتها هم المفكرون والعلماء والمثقفون، فأين هم؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد