الرائدة في صحافة الموبايل

الطاهر عبدلاوي.. الفيلم الوثائقي يصنعني ولا أصنعه(ج2)

(ج1)

تبعا لما سبق أن كتبته حول صناعة الفيلم الوثائقي، وبناء على تجربتي في مجال الإنتاج والإخراج لهذا النوع من المنتوجات السمعية البصرية أود أن أضيف النقاط الآتية:

  • الفيلم الوثائقي يبدأ بفكرة، ثم تتبلور هذه الفكرة إلى موضوع ومحاور وأهداف، ثم فيما بعد إلى بحث ميداني معمق ومفصل.
    في مرحلة الإعداد هذه التي أعتبرها مهمة جدا، سأتقاسم مع كل مهتم بهذا المجال، أسلوبي في الإعداد للفيلم الوثائقي. فللحصول على مادة علمية معتبرة تفضي إلى إعداد جيد ومهني قابل للتنزيل، أشرك معي في هذه المرحلة الأساتذة الباحثين في علم الإجماع “السوسيولجيين”. فقد وجدت فيهم أقرب شركاء لي لصناعة الفيلم الوثائقي، لما يمتلكونه من آليات البحث الدقيق، والمنهجية العلمية في التشخيص للواقع وتحليله .
  • بعد جمع المادة البحثية أشتغل على التصور الموضوعي والفني للفيلم ثم الرؤية الإخراجية، ليكتمل مشروع الفيلم الوثائقي على الورق. وهو ما نسميه (بملف الإعداد لمشروع الفيلم الوثائقي)
  • الإعداد الجيد، مع تصور موضوعي وفني بديع، ورؤية إخراجية جميلة ستعطينا لا محالة فيلما وثائقيا ممتعا، فيلما من سِمَاتِه شد انتباه المشاهد، وتحقيق الفرجة والمتعة التي نبحث عنها، مثله مثل الفيلم الروائي التمثيلي من ناحية الرغبة في المتابعة والإثارة. إلا أن الفيلم الوثائقي أقوى وأجمل في نظري، لأنه يرتكز على قصص من الواقع وعلى الحقيقة، أي ما يوصف عند المتخصصين بالدراما الوثائقية.
    للإشارة فقط أرى أننا نخطأ عندما نقول إننا ننجز سيناريو فيلم وثائقي، فالفيلم الوثائقي لا يرتكز على سيناريو. ما يعني أن كل منتوج إعلامي يبنى على سيناريو مسبق، فهو ليس بفيلم وثائقي. ربما يتضح لك السيناريو بعد التصوير لكن ومع ذلك يبقى تصورا جديدا بناء على المادة المصورة، وحتى هذا يتغير لحظة بلحظة أثناء المونطاج، وأنت تكدح لتحقيق الأهداف التي رسمتها أول مرة والتي بنيت عليها الفكرة. بمعنى أن مصطلح التصور الموضوعي والفني للفيلم الوثائقي هو الأنسب والأقرب للتوظيف وليس السيناريو، وبهذا التعريف البسيط للوثائقي نفرق بينه وبين غيره من الأجناس الأخرى من المنتوجات الإعلامية.
  • نقطة أخرى طالما أثارت عندي نقاشا حادا نسبيا مع بعض المهتمين بمجال السمعي البصري، وهي ربط الفيلم الوثائقي بالوثيقة والوثائق والتوثيق والأرشيف، وكأن الفيلم الوثائقي جاء فقط ليشتغل على الماضي أو على ما سبق أن وثق، أو فقط من أجل التوثيق. والحقيقة لست متفقا مع هذا الطرح وأعتبره تبسيطا في الفهم للفيلم الوثائقي ودوره في التواصل. فالفيلم الوثائقي فرصة لنا جميعا كي نستثمر في الصورة ولغة الصورة وعلم الصورة من أجل الرقي بالتواصل الإيجابي بين الناس وبين الشعوب.
  • نقطة أخرى تدل على أننا نضيق واسعا، عندما نختزل الفيلم الوثائقي في التعليق والمقابلات الكلاسيكية. فكثيرا ما يطلب منا أن نقترح مشروع فيلم وثائقي حول موضوع ما؛ ويشترطون توظيف التعليق مع اختيار صوت المعلق، والاعتماد على المقابلات…
    وفي نظري فإن أي منتوج إعلامي يعتمد على التعليق لتوضيح فكرة ما زيادة، أو من أجل سرد قصة ما، أو الاعتماد على المقابلات الكلاسيكية ، فهو يعني لي الضعف وعدم القدرة على توظيف لغة الصورة، بمعنى تستعمل التعليق كي تبين ما عجزت الصورة على تبيانه، أو المقابلة الكلاسكية كي تصنع حدثا أو رأيا. وبالتالي فنحن أمام جنس آخر، ليس بالوثائقي من مثل: الروبورتاج، الاستطلاع ، التقرير، برنامج إستقصائي مثلا أو تحقيقي، أو ممكن أن نسميه برنامج توثيقي، تسجيلي… الى غير ذلك من المسميات أو التوصيفات الأخرى التي ليس بالروائية ولا الوثائقية. وهكذا ستتضح لنا الصورة لنفرق بين الفيلم الوثائقي الحقيقي الذي هو نقيض الروائي تماما أو التخيلي بل منافس له على مستوى تحقيق الفرجة والمتعة والرسالة النبيلة التي يراد تمريرها، من خلال الفهم العميق للغة الصورة وتوظيفاتها المتعددة في التواصل.
  • بعد بلورة الفكرة وأهم المحاور التي سيتطرق لها الفيلم، ثم الإعداد الجيد ووضع التصور الفني والموضوعي، تأتي الخطة التنفيذية، واختيار طاقم تصوير وأماكن التصوير، وتحديد مدة التصوير، وكذا التنسيق مع أصحاب القصص المشكلين لمحاور الفيلم، الذين سنشتغل على واقعهم، والذين أعتبرهم بمثابة شركاء مثلهم مثل طاقم الإعداد والطاقم التقني والفني، ثم تهييئ كل ما يلزم من معدات التصوير (الكاميرات الصوت الإنارة إلى آخره من المعدات… )
  • إخراج الفيلم الوثائقي بالنسبة لي عملية تشاركية بامتياز، بين الطاقم التقني الذي هو خلف الكاميرا وبين من هم أمامها. فلابد من إشراك الجميع ووضعهم في الصورة بطرح مجموعة من الأسئلة والإجابة عنها: ماذ سنصنع؟ لمن هذا المنتوج الوثائقي؟ ما الهدف منه؟ ماذا سنجني منه؟ إلى غير ذلك من الأسئلة والإجابات عليها بكل موضوعية.
    لقد علمتني التجربة أثناء تصويري للفيلم الوثائقي، أن أضيف كاميرا خاصة مهمتها تصوير وتوثيق كل شيء وكل التفاصيل، بما فيها ما يسمى بالكواليس. فهذه المادة غالية جدا ففيها من المصداقية والتلقائية والعفوية ما سيعطي للفيلم القوة والمصداقية والجودة المطلوبة.
  • أعود إلى موضوع “الفيلم الوثائقي يصنعني ولا أصنعه” فالمفاجآت التي تصادفني أثناء التصوير وربما بعض العوائق التي أحيانا تفرض علي تغيير الخطة، وتغيير المكان والزمان بل وحتى بعض الضيوف (أصحاب القصص) كل ذلك يجعلني فعلا أقف أمام فيلم آخر لا كما تصورته أول مرة. ثم على مستوى المضمون فإن قناعتي ورؤيتي من الممكن أن تتغير لأن أحدهم أعطاني معطيات جديدة كنت أجهلها ولم تخطر على بالي، خصوصا إن كانت أسرارا وحان الوقت للكشف عنها. هذا سيغني معارفي وسيغير قناعتي الفكرية، وبما أن ما يهمني هو الاشتغال بموضوعية وألا أصادر رأي الآخر، خصوصا من يفوقني علما وتمكنا فإن هذا سيدفعني للتغير كذلك من سلوكي وأسلوبي، مما سينعكس طبعا على المتلقي وهو المشاهد في الأخير الذي يجب احترامه واحترام ذكائه وذوقه. لهذا أقول إن “الفيلم الوثائقي يصنعني ولا أصنعه”.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد