الرائدة في صحافة الموبايل

الاقتصاد المغربي وإشكالية ربط المال بالسلطة والجاه

الأستاذ  عبد الواحد حمزة

ديباجة

ما طبيعة ودرجة ووظائف التداخل الحاصل في بلادنا بين السلطة والمال. فهل تستقيم السلطة بدون مال، بدون خزينة أو مخزن، وهل يمكن تصور المال بدون سلطة وجاه؟ من الذي يتخفى وراء الآخر: المال أو السلطة؟ الاستبداد أم الاستحواذ؟ من ولِيُّ نعمة الآخر؟ المخزن أم عالم المقاولة والاقتصاد؟ وتحت أي سطوة؟ من الذي يستفيد أكثر من الآخر: رجال الأعمال أو رجال السلطة/ “خدام الدولة”؟ “خدام المخزن”؟ زبانيات المخزن وأزلامه وأذنابه؟ أليس المال سلطة في حد ذاته أم أن تراكمه يستلزم أدوات لجعله مشروعا ونافذا، قضائيا وسياسيا؟

 فهل هناك من تداخل مطلق أم نسبي بينهما؟ طريق آمِنٌ أمْ محفوفٌ بـ”قلة النية” وضعف الثقة التامة وبمخاطر ومنزلقات الريبة والحذر والشك والخوف المتبادل بين الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين؟ إن المشكل في نظرنا ليس في الترابط في حد ذاته وإنما في طبيعة الترابط ودوائر القرار في شأنه، وكذا في علاقة أقسام المال والسلطة – الدولة – المخزن المترابطة، حيث شراء الذمم والقمع والإرهاب و”الزخرف الديمقراطي” وشكلانيات النظام الانتخابي، أداته في ذلك (…) أي في الأخير في طبيعة النظام السياسي، ككل، من رأسه إلى قدميه، وما يستتبع ذلك من توريط كذا مرة للمؤسسة الملكية في موبقات وفضائح، كم هي في غنى عنها ! 

ثم لمواجهة هذا الورم – السرطان الاقتصادي الاجتماعي السياسي (المكلف للاقتصاد والتنمية ونظام الحكم في المغرب)، هناك وسيلتان أساسيتان على الأقل، تتلخص أولاها في ضرورة بناء مؤسسات النخبة الديمقراطية التمثيلية الفعلية والتشاركية والغير صورية، وثانيها، في ظل محاصرة النخب، اعتماد المقاومة الشعبية والمناطقية السلمية لفرض الحقوق وعلى رأسها المواطنة الكاملة، وهو أمر يظل مفتوحا على احتمالات يصعب التنبؤ بها.

ولهذا فقبل الغوص في تفكيك هذه التيمة، لعل الأمر يستدعي التطرق إلى بعض الملاحظات.

الملاحظات الأولية:

هل الاقتصاد المغربي اليوم بخير؟ هل هو اقتصاد مشتعل أو يغرق il coule أو يحترق أم يتعافى بالتدريج؟ وأي مؤشرات على ذلك؟ وأي سياسات اقتصادية للجم ذلك الاشتعال- الانهيار/ التعافي ؟

خاصة وأن آخر إحصائية للمديرية السامية للتخطيط H-C.P (2012) أبانت الأسبوع الماضي فقط عن مؤشر جديد إيجابي لنمو الناتج الداخلي الخام يدور حول 1.8%، بعدما كان منتظرا في حدود 0.7% بداية السنة الجارية،  والحال أنه لن يتخطى نسبة 1% هذه السنة، وإن كان قد ارتفع سنة 2021 إلى مستوى 7% ضدا على ما كان عليه من انخفاض مفهوم سنة 2020، (الجفاف، الحرب الروسية الأكروانية،…) في ارتباط تام مع المحيط الإقليمي والدولي وتفاعلاته المعاصرة من أجل أقطاب جديدة قيد التشكل اليوم؟

ماذا يمكن أن يعني اليوم “المغرب المواطن” أو “الاقتصاد المغربي” أو “النموذج/ التنظيم الاقتصادي – لاجتماعي لبلادنا اليوم؟ ماذا يمكن أن يعني / أن يكون “وطنيا،”؟ مغربيا، – مغربيا”، “مغربيا” خالصا، متميزا أو استثنائيا، اليوم؟ – يصير أحسن – مواطنا – كامل المواطنة وقادراً على سد حاجيات أمنه وباقي حاجياته الأساسية الأخرى؟ هل يمكن أن نتصور “وطنية جديدة”، أم أن “المواطنة”، صراحة، “وجودية” – غير متجزأة ولا متقطعة ولا بالتنقيط؟

 ذلك أنها لا تقبل – بطبيعتها – التقسيط والتقريط والمحاصصة”/ الفسيفساء المخزنية، ومنها الغياب والتراجع عن المكتسب الديمقراطي والشعبي والتقدم نحو التحرر الاجتماعي والانعتاق الوطني ! هل يمكن تصور نمو دون تنمية ودون طرح إشكالية التوزيع الأولي والثانوي للخيرات؟ أهو “اقتصاد واردات” أم هو اقتصاد متمحور حول الذات؟

هل نحن أمام اقتصاد وطني بمعنى الكلمة أو مغربي، وهو أمر يحيل إلى نقاش كلاسيكي لدى اليسار المغربي حول طبيعة النظام والاقتصاد والمجتمع المغربي. هل نحن أما “رأسمالية الدولة”؟ أم أمام “برجوازية وطنية”  أو “كمبرادور” وطبقة ميركنتيلية أو إقطاعية؟ أم أمام اقتصاد وسياسة ليبرالية ونيوليبرالية تعطي بالظهر لمصالح الجماهير العريضة (أفراد وقبائل وجهات ومناطق…)؟ 

إن اليسار المغربي ومثقفيه، على مر الأحقاب التاريخية، أنتج العديد من المداخل لولوج اقتصاد وطني – بمعنى الكلمة- أي معتمد على الذات ويصبو لسد الحاجيات الأساسية للمغاربة، مقارعون للإمبريالية أو باحثون له عن مكان في مجموعة عدم الانحياز للقوى العظمى، أو ضد الاستعمار القديم والجديد، ومناهض للعولمة ومن أجل “عولمة كوكبية جديدة”، قد تفرز الآن بعض ملامحها على دقات طبول الحرب؟

هل هناك فرق في مجرى الحديث والتحليل الرصين بين الوطن والأمة والقطر/ مقارنة بدول المغارب/ العالم العربي/ شمال إفريقيا – القارة؟ أم أن ضعف الشخصية الوطنية والشوفينية والشعبوية تركت ولازم – اليوم – أن تترك المجال لمحو الهويات الجماعية والفردية، وكذا السيادات الوطنية على الطاقات والمعادن والبشر والثقافة – في ظل العولمة/ الكوكبة المترنحة ؟ هل يمكن تصور اقتصاد بدون مجتمع أو ثقافة عقلية/ ذهنية أو مجتمع بدون اقتصاد وخاصة بدون سيادة وطنية؟ إن كل الخطر أن نتصور الريع كآفة غير معزولة وتنطلي على كافة مفاصيل الاقتصاد المغربي، بل أن يُقتل الاقتصاد الوطني في مقتل، أي أن يشكل سمته الجوهرية وليس إحدى خصائصه فقط؟! وهي فرضية سالبة قاتلة بالتمام والكمال!

ما الذي يمكن أن يعنيه البحث في إشكالية الربط بين السلطة والمال وإعمال الربح السريع، عوض الاشتغال على الاستثمار المنتج والمندمج الذي تأخذ فيه الصناعة الوطنية موقع الصدارة في بلادنا؟ ما الذي يمنع ذلك؟ ما المعوقات لكسب الرهانات المواطِنة؟

وجوب التمييز بين مفهومي “السلطة” و”النفوذ” – تماما كما فعل ماكس فيبر ذلك؛ فالسلطة عند هذا الأخير تعبير عن القدرة على جعل الأوامر تكون محترمة بشكل إرادي. فالقرارات الأساسية يتم تنفيذها بدون إكراه خاص. فالمحكومون يعتبرونها شرعية. أما النفوذ فهو تلك القدرة على فرض الإرادة الخاصة للحاكم، وكذا فرض الخضوع بالقوة أو جعل من رأيه الخاص الرأي الأول والأسبق والمهيمن.

 ولعل ما يمكن التركيز عليه في حالة المغرب هو كيف يتم تسخير القانون للصالح الخاص/ اللوبي المهيمن أو اعتماد قوى الضغط في المؤسسات الرسمية وعلى هوامشها ( انظر استراتيجية الفسيفساء/ الأغلبية البرلمانية والحكومية السياسية الطبقية الحالية). فيمكن التعريف باقتضاب بمعنى الريع على أنه استحواذ / “احتكار وضع “غير مستحق أو غير شرعي أو حتى غير أخلاقي، إذا ما أخذنا بالاعتبار حاجة بلادنا لمقومات التنمية الأساسية، وهو أمر يسمح به التقرب من السلطة/ أو الانوجاد بداخلها، ضد كل إعمال لآليات الحكامة، وهو ما يسمح بتعطيل القانون عامة وقانون المنافسة، على الوجه الخصوص!

 ثم يمكن الإشارة لدور “العنف المشروع للدولة” violence légitime de l’Etat وكذا لـ”امتياز التنفيذ “privilège d’exécution d’office ” لصالحها، كما في القانون العام. (انظر صلاحيات المؤسسة الملكية الدستورية في المجلس الوزاري وكذا خارجه وضعف الأعراف الديموقراطية وأثر ذلك على مسار النمو والتنمية…).

وكذا مساءلة مفهوم فصل السلط (التشريع والتنفيذ والقضاء) واستدعاء المسؤولين إلى الطاولة للحساب؟ وهل يمكن ذلك اليوم وفق قانون موازين القوى الاجتماعية والسياسية الراهنة؟ وأي أفق يخبئه المستقبل المنظور في ظل ضعف الآليات الديموقراطية التمثيلية والتشاركية؟

ويمكن التساؤل عن جدوى مفهوم “الاقتصاد المخزني” في المغرب، توصيفه، آليات اشتغاله وحدوده، نجاعته كمفهوم مميز للاقتصاد المغربي النخبوي المعتمد على آليات ريعية صرفة. (توفير زبناء للنظام المخزني عبر تكوين فئات وسيطة حاملة لجوهره، مما يسمح بإفشاء مجتمعي للإرشاء والتربية على التزلف للسلطة والقبول بالتعامل خارج القانون وحماية المفسدين وحتى التشريع لذلك…، ومساعدتهم للوصول إلى مراكز “ظل القرار” / المراكز الأولى في جهاز الدولة، ضدا على ثقافة العمل والاستحقاق والشفافية… !

وهل الريع من صلب النظام الاقتصادي – السياسي – الثقافي المغربي؟ هل هو آلية معتمدة – سرا وعلانية – للحكم ببلادنا أم هي آفة – جائحة – تسلطت علينا، تماما كما تسلط علينا كوفيد ومتحوراته ذات صباح؟! هل هو من طبيعة الاقتصاد والسياسة والعقلية في بلادنا أم هو مرض مكلف، سرطان وإخطبوط يصيب الماكينة التنموية والإنسان ببلادنا في مقتل؟ (بالنظر إلى النسبة المئوية التي يحتلها ضمن الناتج الداخلي الخام/ “الفرصة البديلة” الضياع الذي يشكله” le coût d’opportunité – le manque à gagne” الذي يشكله الانتماء إلى “اللامغارب”؟

ما الضياع وقدر الهدر المبين الذي يسببه الفساد للمغرب، فساد العلاقة التكاملية الافتراضية مع شعوب وبلدان الجوار التي لم يزدها تشنج الوضع  الإقليمي والدولي إلا احتقانا وتسمما (الصناعة/ الطاقة/ حركة الرساميل والعمل…)؟

متعب أمر هذا الريع ببلادنا؟ أهو “زواج كاثوليكي” لا مناص منه بين السلطة/ المركز/ النفوذ/ المال والأعمال الحرة، وما هي بحرة؟ و”الدولة” وما هي بـ”دولة”، كفاعلين اقتصاديين – سياسيين أساسيين؟ أم هو “زواج متعة” يبدأ وينتهي في الحسينيات أو في المواخير 5 نجوم؟ أم هو “زواج عرفي/ تحت الدف/ بالفاتحة/ بلا مقابل حقيقي/ بلا إنتاج بلا جهد/ بلا عمل وبلا مناخ صحي للأعمال الحرة والمنتجة، فهل يستقيم الزواج صراحة بدرهم رمزي أو بـ”لويزة يتيمة”؟ أم أن النية تكفي !

ألا يعني أننا صراحة أمام بغاء معلن وشذوذ على العلن؟ أمام علاقة غير شرعية و”بيليكي” ما زال؟! أم أن الأمر يتطلب صراحة الأخذ بالجد بـ”قرون النظام السياسي” والتساؤل عما إذا الأمر – بين أسئلة أخرى – يستدعي نقاش العلاقة العضوية بين طبيعة الدولة المخزن في تميزها ضمن تشكيلة اقتصادية- اجتماعية- ثقافية -سياسية متأخرة وتابعة، وهو ما يتطلب إحداث قطائع على مستويات عدة.

لملامسة هذا الموضوع والإجابة على بعض أسئلته، سنتحدث أولا عن الإطار النظري العام لتداخل السلطة وعالم الأعمال، حيث ضبابية العلاقة بين الفاعلين في خدمة الدولة – المخزن، لنعطي ثانيا مثالا على إرساء النيوليبرالية ببلادنا وفق نفس الذهنية والبنيات والسلوكات،  لننتهي ثالثا بإدلاء بعض مهام اليسار الديمقراطي المغربي لمواجهة ذلك واقتراح بدائل ممكنة.

1-إشكالية تداخل السلطة والمال في المغرب تحت سطوة المخزن أو الخلفية الطبقية المخزنية لسلطة المال والأعمال

تجدر الإشارة هنا إلى العلاقة الخاصة والمتميزة بين الدولة–المخزن والمقاولات، فضلا عن بنيات وأقسام الرأسمال والعلائق فيما بينها، إذ لتلك السلطات باع في الأمر والنهي والمراجعات الضريبية والحَرْكات والتتريك، وتهريب المعادن والعملات، وغير ذلك. أليست هي الفاعل الاقتصادي والسياسي، المركزي، الجابي والزبون الأول، المبادرة والحامية والمشجعة والمصاحبة (…) ما يعج به تاريخ وواقع الأحداث الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لبلادنا؟

إن الذي يدعو إلى الاعتبار صراحة هو الإطار العام الذي يربط بين المقاولة الخاصة، ذاتية كانت أو معنوية، والدولة (ولعلو فتح الله، 2001)، وكذا استنبات لوكالات شبه حكومية أو خاصة تفي بالغرض، فهي تتمتع بسلطات تقريرية واسعة بيروقراطية مركزة ونافذة، تشرف من خلالها الدولة على ضبط الشراكات ما بين العام والخاص، لكن كثيرا ما يتم ذلك دون احترام للتمثيل الشعبي ولا لأي مراقبة ديمقراطية حقيقية. إننا نرى أنها تقوم وتفعل على وقع تعامل “الدولة- المخزن” معها، وكل المشكل يكمن في غياب الوضوح الكافي لهذا التعامل وكذا نقاط الظل التي يُبقى عليها فيه، وذلك عبر الزمكان المغربي والإقليمي والدولي العميق والطويل. 

 أراد المغرب أن يجعل المقاولة – القطاع الخاص في صلب العملية الاقتصادية لكن على ما يبدو فقد اعترت إرادته الكثير من المعوقات الموضوعية والذاتية، مما جعل الاقتصاد السياسي المغربي في المدى الطويل يشكو من “متلازمة النمو والثقة والريبة” (المصباحي كمال، 2017)، والحال أن النمو عانى ولا زال من تأثير الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية (السعيدي سعيد محمد، 2013). ذلك ما يجعل المغرب في حاجة ماسة مستمرة إلى الاستثمار لتوطيد أواصر الثقة/ الصورة، وهو ما يتطلب إرادة سياسية واضحة (المصباحي كمال، نفس المرجع)، وسيؤثر على طبيعة وأنواع وأشكال نسبة الاستثمار الوطني في الناتج الداخلي الخام.

فمنذ الاستقلال إلى الآن، ومع الجائحة بالذات، كانت “الدولة – المخزن” بالذات ولا زالت هي المبادرة وهي المؤطرة، وخاصة هي الحامية للاقتصاد ككل، وهي المهيمنة عليه تماما. فكم من تفويتات للقطاع الخاص تمت مقابل درهم رمزي، وهو ما ساهم حقيقة في صعود وتوسع وتنوع مجالات تدخل المقاولة المغربية الشبه – عصرية، ولو ظلت تحت هذا الغطاء الزجاجي/ الوصاية الذي يحد من انطلاقها وإطلاق مغامراتها وتسْييد لبراليتها (…) وتطورها. 

ويجب التأكيد على المنعطف النيوليبرالي الذي وصل إلى الباب المسدود بعد أن شجع الدولة في البداية من الانسحاب من السياسات الاجتماعية، مما جعل النيوليبرالية تدخل مرحلة ثانية في التسعينات، بإعادة الاعتبار للدولة كعامل للتنمية وأداة ضرورية لخلق إطار مناسب لها (بيك. ج Peck J وبرينرن.ن 1999، العولمة كإعادة أقلمة…).

2-بعض أمثلة لتبادل المصلحة بين دولة المخزن والخواص النيوليبرالي – المتوحش

بالفعل يعتبر امتلاك المعلومة الاستراتيجية واتخاذ مكان داخل القرار والاتصال السياسي في الزمكان المعلوم من أقوى أدوات السلطة في مجال المال والأعمال والاستثمار (العقار، تهيئة المناطق الصناعية والاستثمار في البنية التحتية كالطرق السيارة، وكذا القضاء على أحياء الصفيح…).

ثم إن إعادة التشكيل الأنتروبولوجي  للفضاء المغربي التي تقوم به النيوليبرالية العالمية وحلفائها المحللين، تخلق نوعين من المقاومة، الأولى نابعة من الجمعيات والتنسيقيات لذوي الحقوق، والتي قد تبقى “ظرفية”، لهَوْل الدينامية الرأسمالية والعولمة، والتي تشكل مقاومة مضادة، (خاصة على مشارف الطرق السيارة وفي المدن الكبرى، كالرباط والبيضاء مثلا).

ولهذا نعتمد في تحليلنا لهذه الديناميات المزدوجة إطارا نظريا تركيبيا، يمت حاولا من الماركسية المعاصرة، وخاصة في جانبها الاقتصادي الذي يوضح آليات استنبات فوائض القيمة العقارية والمعدنية والدولية، وكذا يمتح من لتحليل الأنتروبولوجي والسياسي الطبقي، وما يتطلب ذلك من تفكيك للخطابات المستخدمة، من هذا الطرف النقيض أو ذاك، لإضفاء الشرعية على النظام الاقتصادي والحضري السياسي الجديد القائم. فلا يمكن دراسة المشاريع الحضرية الكبرى، اليوم على الواجهات، دون وضعها في سياق نقدي شامل يأخذ بالتحليل أنماط بناء الفضاء الاجتماعي.

وكثيرا ما تورطت السلطات المحلية في خدمة المصالح الخاصة، وهو أمر ليس بنادر وإنما هو متواتر (كما لاحظت ذلك بوشانين نافيز.ف 2002) وكثيرا ما ينفضح أمر ادعاء خدمة الصالح العام، فيما لا يخدم “الخطاب الاجتماعي”/ “الدولة الاجتماعية” إلا مصالح الخصخصة وثلة من المحظوظين وطمس الحقائق وغضب الناس وإقصاء الفقراء من ذوي الحقوق وقمعهم وجرهم إلى المحاكم (…).

وكم من مرة عملت وزارة الداخلية على تيسير صيرورة تلك الخصخصة وبيع الأراضي العقارية، دون موافقة أهلها وفي إرغام تام للنواب على قبول الأمر الواقع. وذلك قصد تفكيك المجموعات الإثنية المقاومة والصامدة، وجعلها في حل من أمرها مع مرور الزمن. وهكذا يتم تحويلها – بعد نزع ملكياتها المشاعية وفكّ اعتصاماتها واحتلالاتها لأراضيها بالقوة – إلى قوة عاملة وغلى سلعة سائغة لعملية التحديث الحضري والاقتصادي النيوليبرالي (انظر هارفي ديفيد 2003، في الامبريالية الجديدة، فرنسا)، وذلك وفقا للخطاطة الرأسمالية المألوفة (كارل ماركس، الرأسمال، المنشورات الاجتماعية فرنسا). 

وقد تأتى ذلك لانخراط بلادنا في العولمة، منذ بداية الثمانينات، وذلك في بحث محموم لخلق دينامية لإنتاج ثابت للثورة في المدن (استخلاص الفائض، نزع ملكية الفلاحين الصغار، خاصة منهم داخل المدن الكبرى أو على مشارف الطرق السيارة). والحال أن التغذية متبادلة بين المشروع النيوليبرالي العولمي – ككل، والمُؤطر بتعليمات الهيئات الدولية والسوق المعولم من جهة، وخصوصيات الفضاء المحلي المغربي الهش والمقاوم والموصوم بالتأخر من جهة أخرى، (انظر بوغارت. ك Bogaert. k (سيصدر قريبا)، عولمة السلطوية، المشاريع الكبرى، الأحياء الفقيرة والعلاقات الطبقية الجديدة بالمغرب، منشورات جامعة مينيوسا.

فخلافا للاعتقاد الشائع فإن دور الدولة – المخزن ليس في تراجع أبدا، بل إنها فاعل أساسي في المشاريع الكبرى، الحضرية منها على الخصوص (إنشاء أو توسيع المدن، مشاريع تسويقية حضرية كبرى لجذب المستثمرين والنخب الدولية، مسجد الحسن الثاني 1986-1993، الحي الجامعي للسويسي الرباط وحديقة الحيوان والحزام الأخضر الكبير والحي السكني الراقي حي الرياض،…)، لاسيما من خلال تطوير الوكالات شبه- الحكومية التي غالبا ما تشرف على الشراكات بين القطاع العام والخاص، وفي مناخ كامل من التكتم وتبادل المعلومات الاستراتيجية، وكذا المصالح تحت علم وسيطرة الدولة/ وزارة الداخلية (انظر توكيل شركة تهيئة الرياض S.A.R (ش.ت.ر)، وهي شركة عمومية أسست سنة 1983. إنها تضطلع بمهمة تدبير الأموال العمومية وتتصرف كبنك استثماري نيولبرالي حقيقي وخاصة عبر شركتها الفرعية: الشركة العامة للعقار (ش.ع.ع C.G.I) في مجال إعداد التراب الوطني، وذلك من أجل استخلاص الريوع بشتى أشكالها (ريوع الأرض وريوع المناجم، وكذا الريع الإمبريالي (سمير أمين).

الشكل المؤسساتي الجديد لتداخل السلطة والمال يقوم بتركيز حقيقي للسلطة لدى وكالات شبه عامة أو خاصة، التي يمكن أن تتوفر على كافة السلطات التقريرية. ويمكن أن نفهم ي هذا الإطار استعداد الدولة- المخزن لتنحية كل الهيئات المضادة من جمعيات لتقديم شكاوى قضائية ضد المنتخبين والمسؤولين المشتبه في ارتكابهم لجرائم الأموال، وكذا الضغط حتى حدود الانهيار وضياع الحقوق والهويات (كهوية كيش الاوداية…) لتنسيقيات ذي الحقوق، وتسخر القضاء وتداخل السلط، خاصة السياسية والمالية، حتى تبقى الطريق سالكة لرجال الأعمال، وخاصة منهم من يتولى مناصب حكومية لخدمة المصلحة الاقتصادية الخاصة ولمراكمة الثروة.

 وبالتالي، فإن إقامة حكامة نخبوية/بيروقراطية على هذا النحو، يثير مسألة الشرعية الديمقراطية لتلك الهيئات التي لا تحترم شرط التمثيل الشعبي ولا توفر أي إمكانية للمراقبة الديمقراطية (انظر سوينجداون وآخرون في كتاب التحضر النيوليبرالي في أوروبا، مذكور في مقال صورية الكحلاوي (2018)، “باسم الحداثة، سلب أراضي الفلاحين الصغار والتحضر…”، بملحقة جاك بيرك، المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية (E.M.S)، في كتاب “الاقتصاد السياسي في المغرب”، المجلة المغربية للعلوم الاجتماعية (2018).

3- مهام الديمقراطيين المغاربة: عزل المخزن وإنشاء اقتصاد وطني شعبي ديمقراطي

يستوجب قطع الطريق على الريع في بلادنا البداية من الديمقراطيين أنفسهم. فالمدخل المعرفي يتطلب العمل على التكوين والتكوين الذاتي والنقد الذاتي ونبل الأخلاق في أفق مجتمع ودولة العلم والتكنولوجيا وحقوق الإنسان ودولة الحق والقانون ومجتمع المعرفة والثقافة والتنوير والجَلَد على ممانعة مغريات ومثبطات المخزن!

وقد سبق لألتوسير في مقال/ حوار له بمجلة Esprit (1968)، بعنوان “الفلسفة كسلاح للثورة”، أن اعتبر أن من أهم طروحات ماركس (علم التاريخ) ولينين (التنظيم السياسي والحزبي) وغرامشي (الهيمنة الثقافية) (ص 27)، اعتبار “الفلسفة أساسا سياسة”. ولهذا فهي تمثل الصراع الطبقي في المجال النظري. أما في الواقع، فهي نضال kampf، كما يقول كانت kant، أساسا مجال سياسي بمعنى صراع طبقي. وأن أهم ما أضاف ماركس للمجال النظري الفلسفي، ولم يسبقه لذلك أحدن فهو إمكانية معرفة بنية التشكيلات الاقتصادية – الاقتصادية وتاريخها، مما أصبح يسمح به علم جديد، كعلم التاريخ/ المادية التاريخية. 

ثم إذا سمح هذا المجال النظري بفهم قوانين التاريخ، فليست النخب ولا بإمكان المثقفين ولا المنظّرين وحدهم حتى صناعة التاريخ، وإنما الجماهير/ الكُتل/ الشعب هي من تصنعه. ولهذا فالفلسفة تمثل الصراع الطبقي في المجال النظري. وإذا كانت الأفكار الصحيحة منها السياسية والأخلاقية وغيرها تخدم الشعب، فإن الأفكار الخاطئة تهدمه وتخدم مصلحة أعدائه (ص 33). (انظر روبير د.ج (1971/2022)، العلائق بين الإيديولوجي والعلمي والفلسفي عند ألتوسير من خلال كتاباته لسنوات 1968-1970).

يتطلب الأمر أيضا، على مستوى الممارسة النظرية وتميزها في بلد كالمغرب، إعتماد منظورا تاريخانيا يعتمد “الماركسية الموضوعية” والتحليل السوسيولوجي، الأنتروبولوجي منه، خاصة، ثانيا. كما أن مثقفي اليسار وسياسيوه لم ولن يبدأوا من الصفر، فلهم في هذا الشأن موضوعات متميزة ونقاشات منخرطة في قيم العصر، ثالثا.  وعليه فإن “القطيعة المنهجية” ضرورية لكسب رهان تحديث العقل/ الفكر المغربي، ومن ثمة لدمقرطة الدولة والمجتمع. ولعل الطريق الوحيد لتجنب الانتقائية والسلفية هو نهج سبيل الحقيقة في صيرورتها واعتماد إيجابية الحدث التاريخي وتسلسل الأحداث ومسؤولية الجميع أفرادا ومجموعات مجتمعاً ودولة عنها.

ذلك أن التطور التاريخي يخضع لقوانين لا يحيد عنها، وأنه يتجه وجهة ثقيلة واحدة لا تختلف من جنس لآخر، مما يمكن ثقافة من أن تتفتح على هذه الوجهة ويسمح للمثقف والسياسي بأن يقوم بدورهما الإيجابي (انظر العروي، العرب والفكر التاريخي، ص 186). فالدور التاريخي للغرب الممتد من عصر الأنوار إلى الثورة الصناعية هو المرجع الوحيد للمفاهيم وللتقدم (العروي، الأدلوجة ص 25).

يقترح اليسار ومثقفيه موضوعة مركبة: قراءاته تتمحور حول التنمية المستقلة، نمو الرأسمال المنتج وإعادة استثمار القيمة المضافة داخل الدورة الوطنية، تقوية تمفصل الإنتاج الصناعي، القيام بالإصلاح الزراعي والاكتفاء الغذائي والطاقي والعدالة الاجتماعية والجهوية الحقة والتوازن الترابي وتقوية الاستثمار العمومي وتنمية البحث العلمي والابتكار التكنولوجي والانتقال الرقمي والبيئي والثورة الثقافية والتنويرية وسد الحاجيات الأساسية وتقوية القدرات البشرية والتخطيط الاستراتيجي وضبط ميكنزمات السوق وحكامة جيدة واستغلال أمثل لمدخلات العولمة.

ولنا العلم أن الثروة البرجوازية الفرنسية قضت على الريع، ليبقى في الساحة الاقتصادية والسياسية، نظام ليبرالي شفاف يجمع بالتحديد كل من قوى العمل المنتج والرأسمال الصاعد المربح (ريكاردو دافيد وآدم سميت وستيوارت ميل…)، ولعلها ثورة لا زالت في جدول أعمال البلدان النامية، فهل لا زالت ممكنة وتحت أي قيادة بالضبط لاستكمال الثورة الوطنية الديمقراطية في أفق اشتراكي. ويمكن طرح سؤال يساري راديكالي فيما يعتبر الربح نفسه مستحقا ضمن نظرية العمل (انظر مؤسسي الاقتصاد السياسي وخاصة كارل ماركس) لرفع كل اعتبار لاستغلال الإنسان للإنسان.

لتعميق المعرفة بالأساسات الثقافية للمشروع السياسي البديل/ يسار الغد/ المرتكز على الحركات الشعبية الاجتماعية والمناطقية، لا محيد عن الحوار الوطني، المواطناتي والمسؤول، في أفق واضح للتقدم والعصرنة، يجمع كل القوات الحية، علمانية ودينية متنورة؛ لابد له من إعادة التركيز على موضوعي المساواة والعدالة ومن تعزيز مفهوم الحرية والديمقراطية والمواطنة المتجددة والانفتاح الاستراتيجي؛ لابد له من ربط موضوعة النمو بالتنمية والإنتاج المادي واللامادي بالتوزيع بموازاة مع المواقع الجديدة التي تتبوؤها الطبقة العاملة المهندسة والتقنية. 

وبالتالي فإن هدف الدولة – المخزن ليس هو إطلاق العنان للسوق دون تدخل، وإنما هي تهدف إلى دعمه، ومن خلال ذلك الانتقال إلى موقع الفاعل الرئيسي في خلق الأسواق. كما أن الفضاء الاجتماعي – الديمقراطي اليوم بقي بكرا وهو ما يمكن أن يجمع مكونات واسعة لفعل يساري عصري ومتطور.

خاتمة: ما العمل ؟ الأخذ بجدية بـ”قرون النظام المخزني” للإطاحة به

وفي الختام نميل إلى اعتماد/ اعتراف بوجود علاقة شاذة بين دولة المخزن والقطاع الخاص، لا تخدم الدولة العصرية ولا القطاع الخاص المنتوج – الوطني والمواطِن، في شيء. علاقة لا يمكن اعتبارها زواجا “كاثوليكيا” تماما، فهي أقرب إلى علاقة “زواج المتعة” وهو ما يضرّ بالاقتصاد الوطني وبالتنمية في المغرب (التتريك، المراجعات الضريبية، الاستبداد، الاستحواذ، حماية اللصوص، توريط المؤسسة الملكية،…). وقد عرفت النيولبرالية الدولية  منعطفا حاسما سنوات التسعينات، داعية الدول لتبوء مكانا مناسبا في الدورة الاقتصادية لتنمية وتحفيز الاستثمار، لإعادة نسج الثقة بينها وبين القطاع الخاص. كذلك الدعوة لاعتماد سياسات اجتماعية على الأقل على مستوى الخطاب (السكن الاجتماعي…)، كأن نتحدث اليوم عن “الدولة الاجتماعية لجبر ضرر الطبقات الشعبية. 

لا شك أن هناك أواليات تمكن الديمقراطية والمصلحة العامة من أن تراقبا الرأسمالية والنزوع نحو المصالح الخاصة (بيكيتي طوماس، 2013)، فهل استطاع اعتماد “الخيار الديمقراطي”، رابع ثوابت الدستور المغربي (2011)، بما فيه مجلس المنافسة حصراً، أن يراقب ويلجم وينزع عن اقتصادنا الوطني آفة/ آليات الحكم بالريع والقطاع الغير المهيكل ونزوع النظام السياسي نحو خلط أوراق السلطة / النفوذ بالمال والأعمال والاقتصاد المخزني وتسفيه عمل المؤسسات وإقرار الرأي الوحيد والمطلق وتوريط المؤسسة الحاكمة، مروراً عبر تهميش النخب وتخويفها وترهيبها، جاعلاً المجتمع يفقد الثقة فيها، مما يدفعه للتحرك خارج المؤسسات المدنية التقليدية…

إننا نشك في ذلك. وأي سبيل فعلي لضبط الرأسمالية في مراكزها كما في الأطراف هو اعتماد مؤسسات ديمقراطية وتشاركية فعلية مسنودة بمقاومة شعبية سلمية لذوي الحقوق؛ لتغيير موازين القوى وإحقاق الحقوق وعلى رأسها المساواة الفعلية والمواطنة الكاملة. وإذا كان لمثقفي اليسار المغربي من اقتراحات قد تقطع مع جميع أشكال الريوع، فلها في ذلك مداخل وموضوعات أساسية وقطائع ضرورية، وعلى رأسها إسقاط المخزن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد