هيئة تحرير دنا بريس
من يقود العالم نحو المستقبل؟! سؤال تُجيب عنه أرقام الاستثمار في البحث والتطوير، حيث تتصدر إسرائيل القائمة بنسبة إنفاق تبلغ 6.3% من ناتجها المحلي الإجمالي، متجاوزةً دولًا مصنعة كبرى، في سباق لا يرحم نحو التميز العلمي والتكنولوجي.
وهذا ما أكده رسم بياني أعده موقع Visual Capitalist، استنادًا إلى بيانات رسمية صادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، والبنك الدولي، إلى جانب مصادر وطنية موثوقة، حيث تجلت الفوارق بين من يقود العالم ويسيطر وبين من يسيطر عليه؟!
فإذا كانت كوريا الجنوبية تحل ثانية بـ5% من ناتجها، فإن تايوان، التي تشتد حولها المنافسات الجيوسياسية، جاءت ثالثة بـ4%، مدعومة بقوة قطاع أشباه الموصلات. اللافت أن الولايات المتحدة، رغم تقدمها العلمي، لم تتجاوز نسبة 3.4%، متساوية مع اليابان، في حين بلغت النسبة في ألمانيا وفنلندا 3.1%.
غير أن المفارقة تكمن في الصين. فعلى الرغم من أن نسبة إنفاقها لا تتجاوز 2.6% من ناتجها المحلي، إلا أن ضخامته جعلها تُنفق ما يقارب 723 مليار دولار في عام 2023 فقط، وهو أعلى إنفاق فعلي في العالم، بعد أن تضاعف استثمارها في البحث والتطوير قرابة 18 مرة منذ عام 2000.
هذه المعطيات منشورة في رسم بياني تفاعلي من إعداد موقع Visual Capitalist، استنادًا إلى بيانات رسمية صادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، والبنك الدولي، إلى جانب مصادر وطنية موثوقة.
الدول الأوروبية الشمالية مثل السويد (3.6%) والدنمارك (3.0%) لا تزال تُراهن على الابتكار باعتباره محركًا للنمو الاقتصادي. أما الدول ذات النسب المتوسطة كفرنسا (2.2%)، هولندا (2.2%)، والمملكة المتحدة (2.8%)، فهي تُعزز موقعها من خلال الجامعات ومراكز التفكير والصناعات الدقيقة.
في المقابل، تبدو الصورة أقل إشراقًا في دول جنوب وشرق أوروبا، وأمريكا اللاتينية، حيث لم تتجاوز النسب 1.5%، بل نزلت إلى 0.3% في بعض البلدان. ما يعكس إما ضعف البنية التحتية العلمية أو انشغال هذه الدول بمعارك اقتصادية أكثر إلحاحًا.
هذا الواقع يطرح إشكالات عميقة حول موقع العالم العربي والإفريقي من خارطة الابتكار، ويجعل السؤال أكثر إلحاحًا: هل بالإمكان الحديث عن سيادة أو تنمية دون ركيزة معرفية حقيقية؟ وأي مستقبل يمكن تصوره لأمم لا تستثمر في عقولها؟
غياب عربي لافت: أين المغرب وبقية الدول العربية؟
في خضم هذا السباق العالمي نحو المعرفة، تُسجَّل مفارقة مؤلمة: لا وجود لأي دولة عربية ضمن قائمة الدول الأعلى إنفاقًا على البحث والتطوير كنسبة من الناتج الداخلي. غياب يطرح أكثر من علامة استفهام حول أولويات السياسات العمومية في المنطقة، وحجم الاستثمار الحقيقي في العقول والبنية العلمية.
المغرب، الذي أطلق في السنوات الأخيرة برامج واعدة في الابتكار والتصنيع المتطور، لا يزال بعيدًا عن العتبة الدولية للمنافسة، في ظل ضعف التمويل الموجه لمراكز البحث، وتشتت الجهود بين الجامعات ومؤسسات الدولة. وعلى الرغم من وجود كفاءات علمية مغربية في المهجر تتبوأ مناصب مرموقة في كبريات مختبرات العالم، إلا أن ربطها بالمشاريع الوطنية يظل محدودًا.
أما على الصعيد العربي، فرغم المبادرات الكبرى في بعض دول الخليج، خصوصًا الإمارات والسعودية وقطر، فإن نسبة الإنفاق على البحث والتطوير لا تتجاوز في معظم الحالات 1% من الناتج الداخلي الإجمالي، وهي نسبة تبقى دون المتوسط العالمي البالغ 2.4%.
هذا الغياب الرقمي ليس فقط مسألة إحصائية، بل يعكس غياب رؤية استراتيجية تؤمن بأن البحث العلمي ليس ترفًا، بل رافعة سيادية تضمن الأمن الغذائي والطاقي والتكنولوجي، وتمنح للدول مكانة تفاوضية أقوى في النظام العالمي الجديد.
السؤال الذي يفرض نفسه إذن: هل تستفيق الدول العربية، ومنها المغرب، على حقيقة أن من لا يملك المعرفة، سيبقى دائمًا في موقع التابع؟
في عالم يُعاد تشكيل موازينه على إيقاع الابتكار والتفوق المعرفي، لم يعد الإنفاق على البحث العلمي مجرد خيار تنموي، بل ضرورة استراتيجية ترسم ملامح السيادة والاستقلال الفعلي. الأرقام الواردة، وإن كانت تُظهر تقدم دول بعينها، إلا أنها تُنذر أيضًا باتساع الفجوة المعرفية بين شمال يصنع المستقبل وجنوب يكتفي بالاستهلاك.
وفي ظل هذا المشهد، تبدو الحاجة ملحّة إلى تبني رؤية عربية ومغاربية شاملة ترتكز على جعل البحث العلمي أولوية وطنية، لا هامشًا في ميزانيات تتآكل بين القطاعات. الاستثمار في المعرفة ليس ترفًا، بل هو صمام أمان الأوطان، وسبيلها إلى التموقع في عالم لا يعترف إلا بمن ينتج ويبتكر.
لذلك، تبقى التوصية المركزية موجهة إلى صناع القرار: حان الوقت لوضع استراتيجية وطنية للبحث والتطوير، ممولة ومؤطرة ومتصلة بالتحول الاقتصادي، تراهن على الجامعات، وتحفز القطاع الخاص، وتعيد الثقة للكفاءات الشابة والعقول المهاجرة. فالمعركة اليوم لم تعد فقط جيوسياسية، بل بالأساس علمية، ومن لا يُتقن أدواتها، سيظل على الهامش.
تجدر الإشارة إلى أن المعطيات المشار إليها أعلاه؛ تستند إلى أحدث البيانات المنشورة من قبل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) والبنك الدولي ومعهد اليونسكو للإحصاء (UIS)، حيث تم تجميعها وتحليلها بصريًا في تقرير صادر عن منصة Visual Capitalist خلال أبريل 2025، اعتمادًا على مؤشرات الإنفاق المحلي على البحث والتطوير لسنة 2023. وتوفر هذه المؤسسات قاعدة بيانات موثوقة ومعترف بها دوليًا لرصد مدى التزام الدول بسياسات البحث العلمي وربطها بالتحول الاقتصادي والتنموي.