محمد الكزولي.. “فارس” في زمن الجحود
بقلم الكاتبة والصحافية نادية الصبار
من ذا الذي يقول أن زمن الفرسان ولى ؟!
من ذا الذي يقول أن الإسكندر المقدوني
و صلاح الدين الأيوبي ماتا ؟!
من يجرؤ على القول أن الساموراي خلع كسوته البيضاء و وضع على سطح طاولة سوداء سلاح الواكيزاشي و الدائي شو ؟!
من يزعم أن الدونكيشوت شخصية روائية لم يعد لها وجود ، كما لم يعد لقيم الولاء و الشرف و سمو الروح بقاء في زمن الجحود ؟!
منذ زمن ليس بالبعيد جزمت حتى في أحلامي أن لا فارس بعد دونكيشوت و ساموراي و دايموس و شوغن ، ليس كل من ركب عباب البحر بحار و لا ربان ، و لا كل من ركب الخيل خيال … الفروسية نبل ، أخلاق ، سلوك و حياة ، لم نعد نجد لها تجليات حتى بالروايات .
و أنا بين نكران لها في الزمان و المكان إلا من مخيال حفظته كتابات الشعراء و الأدباء . لأجد أنهم لازالوا هناك ، باقون يتربصون ، يحاولون الصمود في زمن ليس بزمن الفرسان … فهم آتون من زمن ولى و يحاولون أن يتعايشوا مع زمن المكننة و الرقمنة و يركبون جيادهم ليسابقوا الريح . بينهم خيال فريد ؛ لتفرده ظننت أنني نسجت صورته بالخيال . مربي خيول في زمن السيارات و الأرصدة بالأبناك . مربي عاشق للخيل تجمعه ألفة بخيوله لا توصف ، يشهد عليها كل من عرفوه ، فهو لا يملك الخيول بل الخيول ملكته ، فكانت الحب و الحنين ، و الوطن و الموطن الذي ولد فيه ليجده محاطا بها و غارقا في عوالمها ، ساست حبه قبل أن يكون سائسها و قائد سربتها .
حوى خصال الساموراي و الدايموس و الشوغن و كل ما تعنيه كلمة فارس أو خيال في التراث العالمي لعالم الفرسان ، دنكيشوت بحق ومن الشباب ، لا هو أشعت الرأس ولا بلحية بيضاء ، بقامة من زمن الخوالي تثير الانتباه ، عريض الكتفين والمنكبين ، جميل محياه ، تعابير وجهه تحمل كل صفات العزم و الإصرار ، عفيف الخلق ، متعفف في الكلام ، فارس من الأزمنة الخاليات بحلة العصر والآنيات .
رجل عارف بالخيل و الخيالة و البارود و المكحلة و تلابيب الفروسية و التبوريدة من الألف للياء . تربية خيل و تسييسه و ركوبه و العروج به في المسابقات . قيادة السربة و التحكم في الإيقاع و بارود نحسبه عند الطلقة قيس بميزان . حافظ لهوية الفارس قلبا و قالبا ، لكأنك حين تراه تحسبه عارضا للزي التراثي الذي شاكس فعاكس الأزمان ، إلا أن المعاكسة و المشاكسة لم تمنعه من أن يكون ابن عصره ، فكثيرا ما تراه بجينز و قميص أبيض أو أزرق سماوي فتتعود عيناك هكذا عليه ، لتجده بحلل أخرى ؛ جلباب و قميص و عمامة و حزام من يد صناع و حرفيين ، فالمكحلة و البارود في أبهاها حلة للباردي القح من زمن أبيه و جده و جد أبيه ، لا غرو أنه ورث هذا الإرث الثيقل ابا عن جد بأولاد يعيش ؛ و كلمة “يعيش “بمعنى “يحيى” ، و هي كناية على القوة و الحياة ، فهو من بيئة ترعرع أبناؤها على حب الخيل و ركوبه . أو تجده بجلباب و سلهام و “بلغة”( نعل تقليدي يرافق الجلباب و العمامة و القميص و السلهام أي الرداء) لإحياء لياليه الشعرية ؛ فللعرس الثقافي عنده سنن و فروض .
يسحرني فصام شخصيته المحمود حد اللبس ؛ فيليتبس علي الإدراك مع نوبات حيرة و حالة غموض ، من ذا الذي …؟
إنه الفارس الخيال و قائد السربة و مربي الخيول سيدي محمد الكزولي و شيخ من شيوخ الزجل والملحون لما أعطى و لا زال يعطي من كلام ملهج موزون ذي مبنى و معنى ، كلام منغوم غائي ، لأنه ليس شعرا زجليا في ذاته و لذاته بل سخره لحفظ التراث من ضياع أو زوال .
و لأن أعلى مراتب الفرسان القيادة ؛ ففارسنا لشموخه لا يرضى إلا المراتب العليا ، فهو قيادي و بحق … فمنذ ريعان شبابه ، بل بسن مبكرة جدا ؛ كان فيها أقرانه لازالوا يتدربون على ركوب الخيل و طلق البارود داخل السرب ، لتجده تفوق عليهم وتعدى ركوب الخيل و قيادة السربة لقيادة أسراب من المتعاطين لفن التبوريدة من خلال خبرة راكمها و لسنوات ، زاده فيها معرفة و تكوين علمي و خبرة جمعوية ، رغم أنه بعد في مقتبل العمر و ريعان الشباب ؛ لأن يهتم بتنظيم صفوف الخيالة “الباردية ” في جسم جمعوي محلي إلى وطني ، ترأسه محافظا مناضلا مطالبا بحقوق الباردية ، اعتنى بكل كبيرة و صغيرة مع ثلة من المهتمين بشأن البارود و التبوريدة .
فمحمد الكزولي يعجز اللسان عن وصفه أو رصد سيرته في مقالة أو اثنتين وحتى ثلاث ، لأن شخصيته معدن أصيل من العيار الثقيل الذي لا يزنه إلا خبير في المعادن و النفيس . و إني لترددت كثيرا قبل ركوب موج السرد و التعبير ، خوفا من أن لا أوفيه حقه و أنا للانطباع أقيس .