اعترافات بابلو نيرودا عن أصدقائه(1)
الدكتور محمد حماس
قد تحمل الصداقة أكثر من معنى. وقد يختلف هذا المعنى من شخص لآخر. لكن بالنسبة لــ: نيفتالي رييس باسو التو ، المعروف ببابلو نيرودا ـ فالصداقة لها معنى واحد هو الوفاء والتقدير، لدرجة يصبح فيها الصديق جزءا من الذات، يحتل ركنا من الذاكر، لا يمكن استلاله منها مهما ازدحمت الذكريات .. وفي حياة شاعر تشيلي ـ بابلو نيرودا ـ محطات بحجم أيام عمره الذي قضى جله قنصلا متنقلا بين بلدان جنوب الكرة الأرضية وإسبانيا، فخص أصدقاءه، وهم كثر، منهم: روخاس خيمينيث ـ ألبرتو بالديبا ـ عمر بيغنولا ـ فريديريكو لوركا … بمساحات شاسعة من اعترافاته الذاتية: &أعترف أنني قد عشت& .. ظل يذكر العديد منهم حتى بعد مماتهم، حتى وإن اختلفت تصوراته مع حمولاتهم الفكرية. تكاد تقتله الحسرة والأسى إن هو قصر مع أحدهم. وهو بهذا يقدم الصداقة في أسمى معانيها و أبهى صورها .. يجعل من الصداقة أحد الطقوس اليومية التي لا يمكن للحياة أن تستقيم من دونها .. الصداقة بالنسبة إليه هي &الأنا الآخر& .. ألطف العبارات و أنبل المشاعر خص بها أصدقاءه .. إن الصداقة بالنسبة لبابلو نيرودا قضية لا يمكن فصلها عن قناعاته.
هذا هو نيرودا ـ الصديق ـ صاحب نوبل للآداب العام 1971. صاحب &شفقيات& و&مائة أرجوزة حب& الذي كتب قصائده لحبيبته ماتيلد، و&النشيد الشامل& … والذي كانت حياته مزدحمة بالوقائع والأحداث المتلاحقة.
من هنا أردت تقديم بعضا من هؤلاء الأصدقاء الذين كرمهم بابلو نيرودا في سيرته الذاتية: &أعترف بأنني قد عشت&،
(Pablo Neruda: CONFIESO QUE HEVIVID)، والتي ترجمها للعربية الدكتور محمود صبح (الطبعة الثانية يوليوز 1978). وهي الطبعة التي اعتمدتها لتقديم أصدقاء نيرودا.
ألبيرتو روخاس خيمينيث Alberto Rojas Jiménez (1) & … الذي ظلت أشعاره تنعرج في جيوبه و لم تنشر إلى الآن ..&
كان هذا الأديب شاعرا ورساما. عايش بابلوا نيرودا. إذ تعرف عليه بفضل اشتغالهما داخل مجلة &كلاريداد& ( الوضوح ). فقد عملا معا. كان خيمينيث روخاس مديرا للمجلة وكان بابلوا عضوا سياسيا وأدبيا بها .. أحبه نيرودا كثيرا ..
فتيات وكتب وزجاجات وعرق مخثر. تلك هي غواية روخاس المحبوب بأناقته ورشاقته، رغم ما كان يعيشه من بؤس وعوز .. لقد كانت له بوهيمية فطرية. دائم الترحال. يبدل المدن والنساء كما يبدل قمصانه. لا يكاد يستقر في إحداها حتى يبحث عن أخرى تؤويه .. تأثر كثيرا بالشاعر الفرنسي أبوللينير (1880ـ1918)، وبالعصبية التطرفية التي انتشرت آنذاك في إسبانيا، ثم عمت أمريكا اللاتينية كلها. وكانت هذه النزعة تدعو إلى ضرورة الإسراع في إجراء تغييرات جذرية في الشعر وفي الحياة ..
أسس روخاس مدرسة شعرية جديدة إسمها AGU (أغوا)، ويقول عن هذه التسمية، أنها أول كلمة ينطق بها الإنسان عند ولادته، وهي بمثابة أول بيت شعري ينطق به الوليد ..
خيمينيث روخاس ذو شخصية غريبة الأطوار. كلما رحل عن مكان كانا يقيم فيه، يخلف وراءه أشعارا ورسومات وربطات عنق وعاشقات وصديقات … كان يهدي للآخرين كل شيء، قميصه وقبعته وصرافيته وحذاءه. وإذا صادف ولم يكن معه ما يهديه لأصدقائه، كان يأخذ ورقة ثم يوشحها برسم أو أبيات من الشعر، ثم يهديها إياهم.
يقول عنه نيرودا: &… ستعدني على أن أنزع مني نغمتي الكئيبة .. كان يضيء كل شيء .. يجعل الجمال يطير من كل الأنحاء، كما يبعث الحركة في فراشة مختبئة .. إن أبياته الجميلة كانت تنعرج وتلتف في جيوبه وهي حتى الآن لم تنشر …&.
من الطرائف التي حدثت لروخاس في حياته وبعد مماته، والتي ظلت &لغزا& محيرا لأصدقائه، أنه لما كان جالسا ذات مرة بأحد المقاهي، اقتربت منه عجوز اسسمحه أن يسأله أمرا، فأوضح له العجوز أنه معجب به وبما يكتب وهو يريد تكريمه، وذلك بأن يسمح له بالقفز فوقه .. استغرب خيمينيث روخاس الأمر، إذ كيف يمكن لهذا العجوز المسن أن يقفز فزقه؟؟ لكن العجوز أكد له أنه سيفعل، وهو متأكد من ذلك، ليس الآن ولكن عند مماته، إذ سيقفز فزق تابوته، وأردف أن له قائمة في مفكرته بأسماء الشخصيات التي قفز فوق جثثهم .. طبعا ضحك روخاس لهذا الاقتراح العجيب، بل كان مصدر فرح له، فأعطاه موافقته على الفور .. بعد مرور بضع سنين مات خيمينيث في إحدى الليالي الممطرة من فصل الشتاء، بعد أن غادر إحدى حانات سانتياغو، وقد خلف وراءه سترته كعادته. في تلك الليلة حيث كان أصدقاءه جالسين حول نعشه، حضر زائر غريب بملابس سوداء، لم يكلم أحدا، الحزن والحداد باديان عليه، تراجع إلى الخلف قليلا ثم قفز فوق تابوت روخاس، وانصرف أمام اندهاش الحاضرين ..
ما حز في نفس نيرودا أنه لم يكن حاضرا عند وفاة صديقه روخاس، حيث كان مستقرا في إسبانيا، في برشلونا. تألم كثيرا لفقدان هذا الصديق العزيز المتميز.
حالات نادرة هي التي كان بابلو نيرودا يحس فيها بالأسى والحزن يهيضان جناحيه، فقد كان حزنه على روخاس إحدى هذه الحالات. فكان أن كتب مرثاته عن روخاس أسماها &يجيئ وهو يطير&، والتي نشرها في مجلة &أوكثيدنته& الإسبانية. وبسبب حزنه الشديد على هذا الصديق قرر أن يحيي له طقسا دينيا، ولو بعيدا عن تشيلي، فاصطحب معه صديقه الرسام [السائياس كابيثون] إلى إحدى الكنائس حيث اشتريا شموعا كبيرة طويلة، وجلسا في الكنيسة الخاوية وأمامهما الشموع المشتعلة وزجاجات النبيذ الأخضر .. كان الفضاء مسرحيا يليق بإنسان من طينة روخاس.
ألبيرتو بالديبا .. الشاعر المجنون .. &نحضن جسده اللاجسدي، فنحس كأننا نعانق مجرى الهواء …&
هكذا كان ينعته بابلو نيرودا – الشاعر المجنون – أو كان أصدقاءه، وعلى رأسهم بابلو، يسمونه &الجثة& .. كان بالديبا نحيف الجسم، أصفر اللون، شاحب الوجه، نحافته لا مثيل لها. يقول عنه بابلو نيرودا: &نحضن جسده اللاجسدي، فنحس كأننا نعانق مجرى الهواء …&.
ألبيرتو بالديبا شاعر حقيقي، صامت لا يحدث ضجيجا، يدخل ثم يغادر المقهة أو الحانة أو المكان الذي يكون فيه، دون أن تشعر به أو تنتبه إلى حركاته أو سكناته .. هو هكذا. يقول في إحدى قصائده:
كل شيء سوف يمضي،
السماء، الشعاع، الحياة.
انتصار الشر يقوى،
والردى الحتمي يطغى.
ليس يبقى غير عينيك إزائي في مصيري،
يا ابنة النور،
ويا أخت حياتي في الغروب.
كان بابلو نيرودا وأصدقاءه يحتفون ببالديبا &الجثة&، فيقدمون له عشاء فاخرا في مطعم يليق به، وحسب ما تسمح به النقد التي بحوزتهم. بعد العشاء يقيمون له &طقسا دينيا&. عند منتصف الليل يأخذونه في طرب وغناء نحو المقبرة، وهناك يلقون الخطب التأبينية في حقه وكأنه &مرحوم&، فيشارك هو نفسه في هذا العرض المسرحي بكل سرور، ومن غير انزعاج، يتلو جملا مختصرة جدا، ويكتفي برسم ابتسامة على شفتيه .. بعد &حفل التأبين& يتركونه في المقبرة وحيدا يتناول بعض السندويتشات، وهو ممدد داخل حفرة المقبرة ..بعد يومين أو ثلاثة أيام يعود إليهم في نحافته ونظرته الهادئة، تواريها نظاراته. يحمل تحت إبطه رزمة من الجرائد الغريبة. كان هذا تقليدا سنويا درجوا على إقامته لصديقهم ألبيرتو بالديبا بسبب حبهم الشديد له. (يتبع)
د. محمد حماس
الهوامش
اعتمدنا كتاب &أعترف بأنني قد عشت&، (Pablo Neruda: CONFIESO QUE HEVIVID)، والتي ترجمها للعربية الدكتور محمود صبح (الطبعة الثانية يوليوز 1978). الذي ترجمه عن الإسباني محمود صبحي، والذي يحمل عنوان &أعترف أنني عشت&
صحفي وكاتب وشاعر تشيلي، ولد في 21/07/1900 – 25 /05/ 1934
صورة بابلو نيرودامن موقع: https://www.google.com/search?q=%D8%A8%D8%A7%D8%A8%D9%84%D9%88+%D9%86%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%AF%D8%A7&rlz=1C1AWFA_enMA861MA861&sxsrf=ACYBGNTk7XOX3JQP4goiR3pb2LmQbc9e1Q:1577637515960&source=lnms&tbm=isch&sa=X&ved=2ahUKEwjdluTdpdvmAhVCVRUIHXUzBN4Q_AUoAXoECBEQAw&biw=1440&bih=708#imgrc=hOV1uMuSHmslpM: