ضاعت الحقوق.. فانهار الإبداع!
لم يعد الزمن كما كان، لم تعد الثقافة والفنون والسياسة والحياة الاجتماعية كما كانت. تغيّرت البشرية بشكل جذري، وتحوّل العالم إلى ما يشبه الخيال، أو كما كانوا يتخيلونه في أفلام الخيال العلمي… حتى بات الخيال العلمي حقيقة وأكثر. لم تعد الموسيقى كما كانت، ولا الشعر والأدب والسينما والمسرح والروايات والسلوكيات. حتى الإعلام والصحافة، صارا مهنة من لا مهنة له. هو الطبع البشري، يتغيّر بين عقد وعقد، ومن قرن إلى قرن. لكن البديهي، والمؤكّد أنه بين عقد الخمسينيات من القرن الماضي، وعقد السبعينيات كان العالم بأزهى حلة. ثلاثة عقود، شهد فيها العالم أجمل وأحلى وأعذب إبداعاته في الموسيقى والشعر والأدب والسينما. لكن الانهيار الذي تعرّض له الإبداع في الشرق العربي، كان أقسى وأصعب. انقلبت المعايير، وطفت على السطح ترهات بدل الفنون. فلا الأغنية عادت أغنية، ولا الموسيقى عادت موسيقى، ولا الطرب ظلَّ طربًا، ولا السينما سينما!
لماذا انصرف المبدعون عن الإبداع في مختلف المجالات الفنية من الشعر إلى الموسيقى إلى الرسم والسينما والمسرح؟ بكل بساطة لأنها مهن لم تعد تطعم ممتهنيها لقمة العيش. ولماذا لم تعد هذه المهن تطعم أصحابها لقمة العيش؟ لأن الإبداع صار مشاعًا، ولم يعد ممكنًا للمبدع أن يجني ثمار إبداعه. في الستينيات من القرن الماضي، طالب الملحن زكريا أحمد بحقوقه من الأداء العلني لأعماله التي تغنيها أم كلثوم وتتقاضى عنها في كل حفل أجرها، بينما هو لم يحصل على أجره سوى مرة واحدة عن كل لحن. رفع دعوى، وطالب أن تكون له نسبة من أجر كل حفل تحييه أم كلثوم للإذاعة المصرية، وتغني فيه ألحانه، إلا أن الست رفضت، وحصلت القطيعة بينهما لعشر سنوات. ثم عادت العلاقة بمصالحة شكلية في المحكمة، وتوفي زكريا أحمد، وبعده بأربعين يومًا توفي توأمه وشريكه الشاعر بيرم التونسي، قبل أن يحصلا على أي مقابل. وظلّت أعمالهما تتردّد حتى اليوم، ولا حقوق ولا من يحقّقون. شركة “ساسيم” الفرنسية، تجني حقوق الأداء العلني للمؤلف والملحن ومنتج العمل الموسيقي والغنائي في جميع أنحاء العالم، من كل المؤسسات التي تستعمل هذا الإبداع الموسيقي والغنائي، من إذاعات ومحطات تلفزيون ومطاعم ومقاهٍ وفنادق، وتوزّع ما جنته على أصحابها، علمًا أن هناك أكثر من مليون مبدع من جميع أنحاء العالم مسجلين فيها. ولكن في البلاد العربية، لا تجني هذه الشركة الكثير بسبب التحايل الذي تمارسه المؤسسات، وغالبًا التمنّع عن الدفع، وبالمقارنة مع ما تجنيه في باقي دول العالم، نجد أن الأرقام بسيطة جدًا. وتاليًا لا يحقق بعض كبار الملحنين والمبدعين اللبنانيين والعرب سوى بضعة “يورهات” سنويًا لا تساوي شيئًا بالمقارنة مع ما يجنيه المطرب والمغني من شعر الأغاني والألحان التي يؤديها في حفلات ومهرجانات وأعراس ومناسبات. معلوم أن أجر بعض المطربين يتراوح بين عشرين وخمسين ومائة ألف دولار، ويتخطى أجر بعضهم النصف مليون دولار عن الحفل الواحد، ويغنّي ما أبدعه له شاعر وملحن، إلا أننا نجد أن هاذين الأخرين يعيشان في حالة عوز شديد، ولا أحد يسأل. فلا “الساسيم” تحصّل حقوق المبدعين، ولا المطاعم والملاهي والإذاعات التي تستغل هذه الأعمال تدفع ما عليها. على عكس الغرب، وخصوصًا أوروبا والولايات المتحدة الأميركية التي تجني مئات ملايين الدولارات من حقوق الأداء العلني للمبدعين. فقد مات المغني الشهير مايكل جاكسون، وترك ديونًا بمئات ملايين الدولارات، وبمجرّد إعلان وفاته تضاعف الطلب على أعماله الغنائية وأسطواناته، فحققت مئات ملايين الدولارات كانت كافية لتسديد ديونه مع فائض كبير للورثة. وفي السبعينيات، سرق الباعة المتجولون في العالم العربي حقوق المبدعين والمنتجين من الأغاني، حين طبعوا الأعمال ووزعوها بشكل غير قانوني على أشرطة الكاسيت. وقبلهم كانت المطابع غير الشرعية تنشر الكتب والمؤلفات من دون وجه حق، وتوزع ملايين النسخ من الكتب والمؤلفات والروايات والدواوين الشعرية، وتجني منها الأرباح، بينما الناشر والمؤلف لا يحصّلان سوى الإعجاب. حتى الشاعر نزار قباني الذي اشتهر بأنه يعرف كيف يسوّق مؤلفاته وينشرها بنفسه ولحسابه، لم يسلم من ملايين النسخ المزوّرة التي كانت تباع على الأرصفة بربع ثمن النسخ الأصلية. ثم جاء زمن الإنترنت واليوتيوب، وصارت الإبداعات كلها تنتشر على المواقع والتطبيقات الإلكترونية ولا تحفظ حق أحد، وخصوصًا المؤلفات الأدبية والشعرية. وصارت الأغاني بمتناول أي شخص، وخلال ثوانٍ ستجد أي عمل أو مصنّف فنّي متاحًا بأفضل نوعية صوت وصورة، وحقوق أصحاب العمل متروكة للقضاء والقدر. وحده المطرب ظلّ يحفظ حقوقه، يغني ويظهر في البرامج التلفزيونية ويتقاضى ملايينه وحده. على الرغم من القيود المحدودة التي تضعها التطبيقات الغربية لتحصيل بعض الحقوق، إلا أن المبدع لم ينل منها سوى الملاليم والقروش، بينما تحسّنت الجباية لبعض شركات الإنتاج من مختلف التطبيقات ومواقع التواصل الإجتماعي.
منذ البداية، لم تتدخّل وزارات الثقافة العربية ولا الحكومات في حماية حقوق المبدعين المادية، وكانت السرقات تتمّ في العلن ولا أحد يتدخّل، باستثناء بعض المنتجين في مصر الذين قاموا بجهود فردية لحث السلطة، عبر شرطة حماية المصنفات الفنية، على مصادرة بعض الأشرطة المزورة التي كانت تباع على البسطات في المناطق الشعبية، لكنها كانت مجرّد محاولات صورية، ليست بالجدّية الكافية لحماية الحقوق. هذا التراخي، وهذا الإهمال واللامبالاة، أوصلوا المجتمعات الإبداعية الى حالة من الإحباط. فلا الملحن عاد يرغب بمثل هذه المهنة، وتحوّل إلى مجرّد هاوٍ انتقائي، ولا أحد يريد أن يكتب الأغاني، وطمع الكل في التحوّل إلى مطرب ليجنوا أرباحًا أكثر. حتى برامج اكتشاف المواهب، لم تطلب هواة التلحين وكتَّاب الشعر، بل شجعت هواة الغناء فقط. والنتيجة أننا اليوم نعاني من قحط في المواهب الإبداعية، وطفرة في المواهب المنقوصة. فأغلب نجوم الغناء اليوم هم من أصحاب الربع موهبة، وأغلب الشعراء والملحنين هم من أصحاب المواهب المشوّهة، والمصابة بمتلازمة الذكاء الاصطناعي. أنت اليوم تستطيع أن تطلب من الذكاء الاصطناعي أن يكتب لك أغنية، ويكفي أن تحدّد له الموضوع، ثم تطلب منه أن يلحنها، ويكفي أن تحدد له النوع الموسيقي، وتحدد له الصوت الذي تريده أن يؤدي هذه الأغنية، وتحصل عليها جاهزة خلال أقل من خمس دقائق.
سقط الإبداع في امتحان الديمومة، وانهارت المواهب أمام الحاجة والفاقة، وما زلنا نستمتع حتى اليوم بما تبقى من الأصوات والأغاني المنتجة في العقود الثلاثة المذكورة أعلاه. والسبب كل السبب، هي الحكومات التي أهملت وبدّدت هذه المواهب وأضاعت هذه الحقوق…وانهار الإبداع!
المقالة منشورة على مجلة البعد الخامس