دنا بريس – نادية الصبار
من ساحة سيدي مسكور بتينغير، تعالت روائح الأعشاب الجبلية العطرية، ومواد التجميل الطبيعية، والحناء، والزرابي والفخار، والخشب المنقوش والمنحوت، أقمشة ملونة ومزركشة، محيكة ومخيطة، بدت للناظر كربع أو روضة أو جنة عرضها سماء وأرض تنغير.
إنه المعرض التضامني، الحدث البارز إلى جانب أحداث أخرى، ضمن فعاليات النسخة الأولى من “منتدى المضايق والواحات”، وفدت إليه نساء من المداشر والدواوير المجاورة والواحات في حلل زاهية وطلات بهية، وقفن خلف طاولات مصفوفة سردن من خلالها قصصا معاشة، حيث المنحة من رحم المحنة!
بين أروقة المعرض، جلست نساء قدمن من جبال الأطلس وواحات دادس وزيز ودرعة، يحملن بين أيديهن منتوجات لا تعبر عن حِرف متقنة، بل حكايات نسجتها التجربة وصقلها الصبر. كل قطعة تحكي فصلاً من حياتهن، وكأنها بوح من نوع آخر.
زرابي تحكي قبل أن تُحاك
كانت هناك، في ركن من المعرض، زرابي مبتوتة، كل خيط فيها مسار، وكل لون مشوار، وكل عقدة حبكة.. قالت مريم وهي تلمس أطراف الزربية بحنان: “ما يُرى هنا ليس نسيجًا فقط، بل حكايتي… وحكاية أمي وجدتي والنساء اللواتي عبرن هذه الحياة في صمت”.
بدأت الحياكة في سن الثانية عشرة، حين غادرت المدرسة جبرا، وصار الصوف أول لغة تعلمتها بعد الهجاء. في البداية، كانت تحيك الزرابي بطريقة الجدوات، لكن شيئًا فشيئًا بدأت تضيف لمساتها، رموزًا من خيالها، تقول: “حين تعجزين عن قول ما يؤلمك، فقط انسجيه… في صوف ناعم أو لون حاد”.
لم تكن الطريق سهلا بالنسبة لمريم، فالزرابي لم تجد طريقها إلى السوق، ولم يكن الزبائن يسألون عن معنى الرموز. “في القرية، كان الأهالي يهتمون بالكم لا بالكيف”، تقول بأسى، وتواصل.. لكن؛ كل شي تغير حينما فتح السوق التضامني أبوابه، فنحن هنا، قبل أن نكون عارضات، شعرنا أننا رائدات.
جاء زوار من مدن مختلفة، وجاء مسؤولون كبار، سألوا عن النقوش، عن الألوان الأصباغ، عن معاني الأشكال، تواصل مريم والقرحة لا تبرح عينيها لتقول: “شعرت لأول مرة أننا بخير، ورجال السلطة بسطوا أيديهم لنا، ووعدونا بأنهم سيواكبون غزلنا ونسجنا. إننا لسنا في فضاء عرض بل في مساحة اعتراف”.
زيوت عطرية تفوح بالأمل
وأما فاطمة، وهي من نواحي قلعة مكونة، أم لخمسة أطفال، جاءت تحمل قنينات من الزيوت العطرية، الأركان، والورد الدمشقي، والمريمية، والخزامى، وعود القرنفل، وصابون طبيعي ومرطبات ظلت لسنوات حبيسة الأسواق الأسبوعية. تقول بابتسامة لا تفارقها: “السوق التضامني فرصة ثمينة، ليس فقط للبيع، بل للتعريف… الناس صاروا يسألون عن كيفية وطرق التحضير”.
“اليوم أحسست أن ما أفعله له قيمة أبعد من لقمة العيش، وحين عدت إلى البيت وفي يدي أوراق نقدية وفيرة وفي قلبي عزة نساء”. وحين وصلها خبر السوق التضامني المنظم على هامش منتدى الواحات، لم تكن تنتظر أن يتغيّر شيء سوى مكان العرض. لكنها فوجئت بشيء لم تحسب له حسابًا: الاحترام. تقول: “سألوني عن كيفية إعداد المنتوج، وطلبوا مني ملصقات، وساعدوني على ترتيب الطاولة. شعرت وكأني لأول مرة منتِجة، لا مجرد بائعة”.
أما نعيمة، فقد لم تطرق السوق هذه المرة كبائعة موسمية، بل كصوت من الهامش وجد منصته. تقول: “أنا لم آتِ فقط لبيع المريمية، جئت لأقول إننا هنا، ننتج، ونبدع”.
هذا وحين سمعت بالمعرض التضامني المنظم على هامش منتدى المضايق والواحات، ظنّت أن الأمر مجرد منصة للبيع لا أكثر، تقول نعيمة: “جئت وأنا أحمل ما كنت أحمله دائمًا، لكنني هنا شعرتُ لأول مرة أنني أحمل معي شييا أكثر من البضاعة… أحمل قصة نجاح”.
وعلى ما يبدو، فالمعرض التضامني، الممتد من 2 إلى 8 ماي، ليس فضاء للعرض. إنه مرآة لهوية نساء تنغير ونساء دادس وتودغى، لشجاعتهن، ولقدرتهن على تحويل المحنة إلى منحة، وحرفة ومصدر كسب ورزق وثقة بالنفس. فمن بين 78 تعاونية حاضرة، 55% منها نسائية، وعشرات القصص المتداخلة.